وعلى هذا التقرير: فلا يمكن إطلاق القول بنفي تواتر الأداء حتى يُسأل عن ماهيته المقصودة من هذه المراتب، وتواترها(اليقين في ثبوتها) بدهيٌ واضح، وإن تفاوتت مراتبها في التواتر، فما ورد على ألسنة بعض العلماء (١) من نفيٍ لتواتر الأداء يُحْمل على الأداء الذي لا ينضبط بالتلقي، وهو ما صرَّح به ابن خلدون، وذلك كتحديد مراتب المد بالدقة المتناقلة بعدد الحركات، فإن أصل المد راجعٌ إلى ذات الحرف (وهو المسمى بالمد الطبيعي)، وهذا يندرج في (القراءة)، ومده فوق ذات الحرف راجعٌ إلى عربيته الصِرفة من لقائه للهمز أو السكون، على ما هو مقررٌ في علوم العربية، وذا عائدٌ للقراءة أيضاً، وترديده بتأنٍ وتبيينٍ أظهرُ للحروف يرجع إلى الترتيل، وتواترُه بين المسلمين أبين من أن يُتكلم عليه، وتنغيمه على هيئةٍ معينةٍ يرجع إلى التغني والترجيع، وتواتره بين المسلمين معلوم أيضاً، وبقي التحديد الأكثر دقةً من أربع حركات، أو ست، أو نحو ذلك قد يُسَلم بعدم تواتره (٢)، ولا ضائر يضير القرآن من عدم تواتره، فمثله كمثل إنسانٍ كُسي أنواع الثياب، فقائلٌ يقول: كمُّ ثوبه إلى رسغه، وآخر يقول بل إلى خنصره، وثالثٌ يقول بل بين ذلك... مع اتفاقهم جميعاً على أنه اكتسى... فأين من يقول بأن الزاعم قِصَرَ الكمِّ قد أنقص في طبيعة الرجل الأصلية؟، وبأن الزاعم طول الكم قد زاد في خلقة الرجل الأصلية؟ فكذلك القرآن لا يضيره تفاوت مراتب المد ونحوها حتى يقال بأن الذي زاد دون تواترٍ قد زاد في كلام الله... ونحو ذلك، ولا يتسع المقام لأكثر من هذا.
(٢) وهو ما صرَّح به ابن الجزري -رحمه الله تعالى- في منجد المقرئين ص ٤٣، على الرغم من إنكاره الشديد على ابن الحاجب -رحمه الله تعالى-.