٣. عند التسليم بصحة موضع الاستشهاد في الحديث، فإن وضعه في موضعه الصحيح هو الحكمة ذاتها... إذ إن مراد ابن مسعود - رضي الله عنه - منه ترك التعمق في السعي وراء الألفاظ، وحتمية إعطائها القدر المناسب لها دون إيغالٍ شاغلٍ بها عن المراد منها، والنهي عن التنطع، والتعمق... والنهي عن الإيغال والغلو ليس خاصاً بالوسائل بل هو عام في كل شيء مقاصداً ووسائلاً... وذا من بدهيات دلالات سبيل القصد، والوسطية في الشريعة، بل في سائر جوانب الحياة المختلفة (١)... وهذا الفهم لمنطوق كلام ابن مسعود - رضي الله عنه - هو ما نص على مثله السيوطي -رحمه الله تعالى- في تنوير الحوالك حيث قال: "(قليل قراؤه) أي الخالون من معرفة معانيه، والفقه فيه، (وتضيع حروفه) أي أن المحافظين على حدوده أكثر من المحافظين على التوسع في معرفة أنواع القراءات" (٢).
ومن الأدلة على أن الإمام أبا إسحاق الشاطبي -رحمه الله تعالى- لا يريد ما ذهب إليه هؤلاء، أنه قال -بعد- معدداً القواعد التي تنبني على الأصل الذي ذكره، وورد الاستدلال بكلام ابن مسعود - رضي الله عنه - ضمنه: "اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنةٌ لأن يحتال بها على أغراضه، فتصير كالآلة المعدة لاقتناص أغراضه" (٣)، وهذا دالٌ على أن كلام ابن مسعود - رضي الله عنه - ينبغي أن يُفهم في إطاره، فلا يتخذ مطية لهدم الشريعة التي هي أصل أثر ابن مسعود - رضي الله عنه -، ولذا فإنه كان يُقَعِّدُ لقراءته أقوى تقعيد، ويعتمد على أوثق الأسانيد وهو قوله: (أخذتها من في رسول الله - ﷺ - ) (٤).
(٢) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ص١٤٤، مرجع سابق.
(٣) الموافقات٢/١٧٦، مرجع سابق.
(٤) المعجم الكبير للطبراني ٣/ ١٩٧، مرجع سابق.