وقد صار الحفظ يطلق على ذلك، فصار حقيقةً عرفية لدى العلماء، ولذا بوب ابن حبان -رحمه الله تعالى- فقال: "ذكر استحقاق الإمامة بالازدياد من حفظ القرآن على القوم، وإن كان فيهم من هو أحسب وأشرف منه" (١)، ثم شاع بعد ذلك حتى صار حقيقةً عرفيةً عند عامة المسلمين، فإن أطلق لفظ (حافظ) أو (حفظ) لم ينصرف لغير حفظ القرآن، وإن أُريد به غير القرآن لم يرد على ألسنة الخاصة والعامة إلا مقيداً، فرسخ بذلك مفهوم الحفظ في الصدر عندهم كمرادف للقراءة من الذاكرة في خصوص القرآن الكريم، ولذا دعا الرسول - ﷺ - إلى حضهم على القراءة من المصحف التي أُطلِقَ عليها مؤخراً مصطلح (القراءة نظراً)، فقال: (من سره أن يحب الله ورسوله؛ فليقرأ في المصحف) (٢). ولعل إطلاق الحفظ على القرآن المودع في الذاكرة للربط حفظ الله للقرآن بحفظ العبد له، وأن حفظ العبد له بالمفهوم السالف الذكر مستقى منه.
ولأجل ما يحتويه مصطلح (حفظ)في هذا الباب من مُتَضَمَّناتٍ ربما لم يلتفت إليها قومٌ، وربما قلل من شأنها آخرون؛ فقد وجب أن نخوض غمارها لنعلم سر الاختيار القدري لها لترتبط بألفاظ القرآن؛ ففيه يتضح لنا دقة نقل ألفاظ القرآن إلينا، وتعليم جبريل - عليه السلام - للنبي - ﷺ - وهو الرابط بين استقصاء هذه المسألة وبين غاية البحث، على أن تحليلنا لها إنما هو كائنٌ من حيث مُتَعَلَّقها البشري لا من حيث مُتَعَلَّقها الإلهي، كما سبق في تأصيلها من حيث اللفظ.
المطلب الثاني: متضمنات الحفظ:
يتضمن (الحفظ) من حيث حقيقته اللغوية والاصطلاحية مجموعة دلالاتٍ تنحصر في التالي:
(٢) (أبو نعيم) أحمد بن عبد الله الأصبهاني ت ٤٣٠ هـ : حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ٧/ ٢٠٩، ١٤٠٥هـ، دار الكتاب العربي - بيروت، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ٢/٢٣٤، مرجع سابق.