فالمرة الأولى: بالأُفق المبين، قيل: بعد أمر غار حراء، حين رآه على كرسيٍ بين السماء والأرض له ستمائة جناح (١)، والأُفق: الفضاء الذي يبدو للعين من الكرة الهوائية بين طرفي مطلع الشمس ومغربها من حيث يلوح ضوء الفجر ويبدو شفق الغروب، وهو يلوح كأنه قبة زرقاء، والمعنى: رآه بين السماء والأرض، وقيل في معنى الأُفق غير ذلك (٢)... وأياً كان فوصفه بـ ﴿ الْمُبِينِ ﴾ أي الأُفق الواضح البين، والمقصود: نعت الأُفق الذي تراءى فيه جبريل - عليه السلام - للنبي - ﷺ - بأنه أُفقٌ واضحٌ بينٌ لا تشتبه فيه المرئيات، ولا يتخيل فيه الخيال، وجعلت تلك الصفة علامةً على أن المرئي ملك، وليس بخيالٍ؛ لأن الأخيلة التي يتخيلها المجانين إنما يتخيلونها على الأرض تابعةً لهم على ما تعودوه من وقت الصحة (٣)، وقد وصف النبي - ﷺ - الملَك الذي رآه عند نزول سورة المدثر بأنه على كرسيٍ بين السماء والأرض (٤)، ولهذا تكرر ذكر ظهور الملَك بالأُفق في سورة النجم في قوله - سبحانه وتعالى - ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(٥)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(٦)وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ﴾ -إلى أن قال- ﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى... المأْوَى ﴾ "النجم/٥-١٨".
والمرة الأخرى عند سدرة المنتهى (٥)، وتكرار الرؤية للتأكيد؛ لئلا يكون للوهم سبيل إلى نفسه وسائر من بلغ من الخلق أجمعين، وقد كانت الأخرى في مكانٍ لا يُشَكُّ فيه، ولا يزيغ البصر عنده، ولا يطغى.
(٢) انظر: التحرير والتنوير ٢٦/١٠٠، مرجع سابق، والغير المذكور ليس المراد منه المغايرة الكلية (التباين) بل من حيث الخصوص، أي اختلف في تحديد مكان جهة الأُفق.
(٣) التحرير والتنوير ٣٠/١٥٩، مرجع سابق.
(٤) انظر: البخاري ١ / ٣، مرجع سابق.
(٥) راجع: البحر المحيط ٨/٤٣٥، مرجع سابق.