يجعل الاحتمال الأول أرجح وأوقع، وإن كلن التفصيل غير مجزوم به؛ إذ قد يكون الاتصال بالمراكز الأساسية للسمع والبصر، والوعي في الفؤاد دون المرور بالمراكز التي في المخ، وقد يكون الأمر بصورة تفصيلية غير ذلك، ولكن لا شك أن الواقع العلمي الذي نعيشه اليوم قد قرب تصور هذه العملية كثيراً، وما ظَهَر يُقَرِّبُ فهم ما لم يظهر ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴾ "ص/٨٨"... ويزيد هذا الاحتمال رجحاناً ما تم من إعداد خاص لفؤاد النبي - ﷺ - كما سبق التكلم عن ذلك في أول الفصل الثاني.
فإن اعتُرض بالقول: إذا كان جبريل - عليه السلام - عند نزوله على قلب النبي لتلقينه الوحي القرآني على مسافة قاب قوسين أو أدنى- أفما كان يقرب من النبي - ﷺ - أكثر من ذلك، أو ينأى عنه أكثر ؟. فالجواب: إما أن يكون هذا تصويراً للحالة الغيبية غير المشاهدة لغير الرسول - ﷺ - لنزول الملَك عليه بالوحي، وهي أشدها عليه، فتكون في غاية الدقة في وصف مكان الملَك، والمسافة التي تبعده عن النبي - ﷺ - في هذه الحالة، وإن كان من حواليه لا يراه، وإما أن يكون تصويراً لحالة المجيء المشاهد للملَك، وهو كائن عند تمثل الملَك رجلاً، فقد كان يتم للملَك القرب من النبي - ﷺ - أكثر كحديث عمر المشهور في مجيء جبريل - عليه السلام - يعلمهم أمر دينهم حيث جعل ركبتيه عند ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، ولكن هذا المجيء المشاهد للملَك لا يتعلق به وحي قرآني؛ إذ هاهنا حقيقة تتعلق بهيئة الملَك عند الوحي القرآني هي أن الوحي القرآني لا يأتي الملَك فيه إلا بالصورة الأشد.