أ ـ موطن القصدية الفعلية: وجدناها تظهر في حذف ثلاثة مفعولات من قوله تعالى:
ـ مَاَ يَسْطُرون ـ فَسَتُبْصِرُ ويُبْصِرون ـ لَوْ تُدهِنُ فَيُدْهِنُون.
إن السياق السردي في هذه التراكيب يقود إلى طرح عدة تساؤلات وتوقع عدة احتمالات من جراء هذا الحذف..
ولعل الإجابة تكون مضمرة في ثنايا النسيج السردي الذي يعقُب كلّ مفعول، ليترك ذهن كل قارئ ينصرف إلى حيث استقر ذهنه في استبطان تلك الإضمارية. وهي ظاهرة تقنية تشي بها الحداثة، وبخاصة في مجال ما يسمى بالرواية الجديدة حيث ترمي إلى إشراك القارئ في النص، وهي لفتة تبليغية
(Un geste communicatif) من شأنها الخروج بالإطارية السردية إلى فضاءات رحبة يتسع فيها المدد السردي ليشمل الباث والمتلقي معاً...
وفي هذا السياق يرى عبد السلام المسدي بأن "جوهر الأسلوب، إنما يكمن فيما يضفيه الباث على الفكر، بما يحقق كل التأثير الذي صيغت من أجله هذه الفكرة، أي أنه يرفق الفكرة بسهام تخز المستقبل فتستفزّه وتحرك نوازعه وردود فعله"(١)..
ولعل الإضمارية ـ بهذه التوصيفية ـ تكون قد سجّلت حضورها في مرصودنا التراثي العربي. ويمكننا أن نحيل في هذا الشأن إلى التفطن المبكر للنظرية البلاغية التي أظهرت تصوراً يتماس مع النظرات الحداثية الجديدة، بحيث وجدنا البلاغة تعتمد على الحذف تحقيقاً لمقولة أكثم بين صيفي التي مفادها: "البلاغة الإيجاز(٢)"(٣)..

(١) د. عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب ـ ص ٨٢.
(٢) يمكن الرجوع في هذا الشأن إلى كتاب البيان والتبيين، وتحديداً إلى قصة صحيفة بشر بن المعتمر التي أوردها الجاحظ في معرض حديثة عن البلاغة والاقتصاد البياني في فن القول.
(٣) السيد أحمد الهاشمي: جواهر البلاغة ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٩٧٨ ـ ص ٢٢٤.


الصفحة التالية
Icon