غير أن هذا التفاوت بين النظرة التقليدية التي صورتها البلاغة، وبين البعد الحداثي من وراء الحذف أو القصدية الإضمارية، إنما ينحصر في كون الأولى تنظر إلى الحذف من وجهة بلاغية صرفة، بحيث يمكن الاستغناء عن المفعول به مثلاً، إذا كان لا يستدعي ذكره أي جديد. في حين نجد الثانية ترمي وراء الحذف، إلى إشراك القارئ وشدّه إلى النص الأدبي، بعد وضعه في حيرة ليكون عنصراً مفعّلاً لدينامية النص، الأمر الذي جعلها نظرة فنيّة تحيل إلى الحداثة...
إن الجزء الأول من تعليل إخفاء المفعول به ـ والذي جاء في هذا التعريف: "لقد قرأنا في علم المعاني أن المفعول لا يحذف إلا إذا أريد أن يكون في ذهن السامع مطلقاً عاماً ينصرف إلى كل مفعول يتخيله الذهن، أو أن يكون معلوماً وحذفه أولى من ذكره"(١) ـ هو الذي يقصد من وراء حذفه في المواطن الثلاثة ها هنا...
والواقع أننا نجد الذهن مثلاً ينصرف في (ما يسطرون) إلى فعل الكتابة التي تنشأ عن القلم.
وفي (فستبصر ويبصرون)، ينصرف إلى المصير المتربّص بالرسول والمشركين. وفي (لو تدهن فيدهنون)، يذهب إلى فعل المداهنة أو المساومة وتأثير ذلك على خطّ الدعوة الإسلامية..
ومما لاشكَّ، فيه أن القارئ نفترض أنه سيجد له مكاناً بفعل الاحتمالات التي يطرحها والتي من شأنها الوصول إلى ما وراء السردية الإضمارية التي يكمِّلها هو.
وفي هذا الشأن يقول غنيمي هلال: "أصبحت القصة الحديثة تتطلب من القارئ جهداً كبيراً للكشف عن هذا المؤلف من وراء الأحداث
والشخصيات"(٢)....
(٢) غنيمي هلال : النقد الأدبي الحديث ـ ص ٥٥١.