إن المتذوّق لأي شعر لا يرى البلاغة إلا في شعر لغته لأن ملكته اللغوية تربَّت على تلك اللغة ومحاسنها فليس من الممكن أن يستعذب سواها(١)[٢٩]).
وهذا رأي صحيح بل لا يحتمل النقاش، فإدراك البلاغة في لغة أو لهجة ما لا يكون إلا بعد التمكن من ناصية تلك اللغة وأسرارها.
ولعلَّ النقطة التي تحتاج إلى تعقيب هنا - وقد لا يلتفت إليها بعض الناس - هي ظنهم أن بلاغة القول لا تكمن إلا في فصاحته، ويريدون هنا اللغة العربية الفصحى متناسين أي اعتبار آخر.
لذا ينبغي التأكيد على أن البلاغة هي مازالت عند تعريفها الأصيل والتزامها بهذا التعريف قلباً وقالباً، وهي مطابقة الكلام لمقتضى الحال. وقد يكون حال السامع أكثر أهميَّة من حال المتكلم حتى يحكم على القول بالبلاغة أو عدمها. يقول الزَّيات :
"...... فالبلاغة إذاً توجّه إلى العقل أو إلى القلب إو إليهما معاً لما تقتضيه حالات المخاطبين من مقاومة الجهل والرأي والهوى منفردة أو مجتمعة، فإذا كان غرض البليغ نفي جهالة أو توضيح فكرة أو تقرير رأي أجزأه في وفاء غرضه الصّحة والوضوح والمناسبة، فإذا أراد التعليم أو الإقناع وكان قوام الموضوع طائفة من الفكر والأدلة وجب عليه أن ينسقها ويسلسلها على مقتضى الأصول المقرَّرة في المنهج العلمي الحديث"(٢)[٣٠])
والقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي اهتم بخطاب العقل والقلب معًا، ولا يخفى على علماء العربية وجهابذة اللغة مدى بلاغته ومراعاته لمقتضى الأحوال، وكيف يخفى عليهم ذلك وهو معينهم الأول ورافدهم الأصيل؟!

(١) ٢٩]) نفسه، ص٦١٤(بتصرُّف)، وافق بن خلدون في نفس الرأي د. إبراهيم أنيس، في نصه المذكور من قبل، فضلاً انظر ص٧ من هذا البحث.
(٢) ٣٠]) دفاع عن البلاغة، أحمد حسن الزيات، ص ٢٣، مطبعة النهضة، سنة ١٩٦٧م، مطبعة الرسالة، سنة ١٩٤٥م.


الصفحة التالية
Icon