ويكتبه في كتاب قد يزيد فيه وينقص كما جرت عادة الناس في كثير من مكاتبات الملوك وغيرها فإذا جاء كتاب السلطان فقيل هذا الذي فيه كلام السلطان بعينه بلا زيادة ولا نقص يعني لم يزد فيه الكاتب ولا نقص وكذلك من نقل كلام بعض الأئمة في مسألة من تصنيفه قيل هذا الكلام كلام فلان بعينه يعني لم يزد فيه ولم ينقص كما قال النبي ﷺ نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه
فقوله فبلغه كما سمعه لم يرد به أنه يبلغه بحركاته وأصواته التي سمعه بها ولكن أراد أنه يأتي بالحديث على وجهه لا يزيد فيه ولاينقص فيكون قد بلغه كما سمعه فالمستمع له من المبلغ يسمعه كما قاله ﷺ ويكون قد سمع كلام رسول الله ﷺ كما قاله وذلك معنى قولهم هذا كلامه بعينه وهذا نفس كلامه لا يريدون أن هذا هو صوته وحركاته وهذا لا يقوله عاقل ولا يخطر ببال عاقل ابتداء ولكن اتباع الظن وما تهوى الأنفس يلجىء أصحابه إلى القرمطة في السمعيات والسفسطة في العقليات
ولو ترك الناس على فطرتهم لكانت صحيحة سليمة فإذا رأى الناس كلاما صحيحا فإن من تكلم بكلام وسمع منه ونقل عنه أو كتبه في كتاب لا يقول عاقل أن نفس ما قام المتكلم من المعاني التي في قلبه والألفاظ القائمة بلسانه فارقته وانتقلت عنه إلى المستمع والمبلغ عنه ولا فارقته وحلت في الورق بل ولا يقول أن نفس ما قام به من المعاني والألفاظ هو نفس المداد الذي في الورق بل ولايقول أن نفس ألفاظه التي هي أصواته هي أصوات المبلغ عنه فهذه الأمور كلها ظاهرة لا يقولها عاقل في كلام المخلوق إذا سمع وبلغ أو كتب في كتاب فكيف يقال ذلك في كلام الله الذي سمع منه وبلغ عنه أو كتبه سبحانه كما كتب التوراة لموسى وكما كتب القرآن في اللوح المحفوظ وكما كتبه المسلمون في مصاحفهم
وإذا كان من سمع كلام مخلوق فبلغه عنه بلفظه ومعناه بل شعر مخلوق كما يبلغ شعر حسان وابن رواحة ولبيد وأمثالهم من الشعراء ويقول الناس هذا شعر حسان بعينه وهذا هو نفس شعر حسان وهذا شعر لبيد بعينه كقوله
** ألا كل شيء ما خلا الله باطل **
ومع هذا فيعلم كل عاقل أن رواة الشعر ومنشديه لم يسلبوا الشعراء نفس صفاتهم حتى حلت بهم بل ولا نفس ما قام بأولئك من صفاتهم وأفعالهم كأصواتهم وحركاتهم حلت بالرواة والمنشدين فكيف يتوهم متوهم أن صفات الباري كلامه أو غير كلامه فارق ذاته وحل في مخلوقاته وأن ما قام بالمخلوق من صفاته وأفعاله كحركاته وأصواته هي صفات الباري حلت