المحرر الوجيز، ج ١، ص : ٤٣٦
واختلف الناس في اشتقاق لفظة الْمَسِيحُ فقال قوم، هو من ساح يسيح في الأرض، إذا ذهب ومشى أقطارها فوزنه مفعل، وقال جمهور الناس : هو من - مسح - فوزنه - فعيل، واختلفوا - بعد - في صورة اشتقاقه من - مسح - فقال قوم من العلماء، سمي بذلك من مساحة الأرض لأنه مشاها فكأنه مسحها، وقال آخرون : سمي بذلك لأنه ما مسح بيده على ذي علة إلا برىء، فهو على هذين القولين - فعيل - بمعنى - فاعل - وقال ابن جبير : سمي بذلك لأنه مسح بالبركة، وقال آخرون : سمي بذلك لأنه مسح بدهن القدس فهو على هذين القولين - فعيل - بمعنى مفعول، وكذلك هو في قول من قال : مسحه اللّه، فطهره من الذنوب، قال إبراهيم النخعي : المسيح الصديق، وقال ابن جبير عن ابن عباس : الْمَسِيحُ الملك، وسمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى، وغير ذلك من الآيات، وهذا قول ضعيف لا يصح عن ابن عباس.
وقوله : عِيسَى يحتمل من الإعراب ثلاثة أوجه، البدل من الْمَسِيحُ، وعطف البيان، وأن يكون خبرا بعد خبر، ومنع بعض النحاة أن يكون خبرا بعد خبر وقال : كان يلزم أن تكون أسماؤه على المعنى أو أسماؤها على اللفظ للكلمة، ويتجه أن يكون عِيسَى خبر ابتداء مضمر، تقديره، هو عيسى ابن مريم، ويدعو إلى هذا كون قوله، ابْنُ مَرْيَمَ صفة ل عِيسَى إذ قد أجمع الناس على كتبه دون ألف، وأما على البدل أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون ابْنُ مَرْيَمَ صفة ل عِيسَى لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص، هذه النزعة لأبي علي، وفي صدر الكلام نظر، ووَجِيهاً، نصب على الحال وهو من الوجه، أي له وجه ومنزلة عند اللّه والمعنى في الوجيه أنه حيثما أقبل بوجهه، عظم وروعي أمره، وتقول العرب : فلان له وجه في الناس وله جاه، وهذا على قلب في اللفظة، يقولون جاهني يجوهني بكذا أي واجهني به، وجاه عيسى عليه السلام في الدنيا نبوته وذكره، ورفعه في الآخرة مكانته ونعيمه وشفاعته، وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، معناه من اللّه تعالى.
قوله تعالى :
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
قوله : وَيُكَلِّمُ نائب عن حال تقديرها ومكلما وذلك معطوف على قوله : وَجِيهاً [آل عمران : ٤٥]، وجاء عطف الفعل المستقبل على اسم الفاعل لما بينهما من المضارعة كما جاز عطف اسم الفاعل على الفعل المستقبل في قوله الشاعر :[الرجز].
بتّ أعشّيها بعضب باتر يفصد في أسوقها وجائر
وقوله : فِي الْمَهْدِ حال من الضمير في يُكَلِّمُ، وكَهْلًا حال معطوفة على قوله : فِي الْمَهْدِ، وقوله : مِنَ الصَّالِحِينَ، حال معطوفة على قوله، وَيُكَلِّمُ، وهذه الآية إخبار من اللّه تعالى لمريم بأن ابنها يتكلم في مهده مع الناس آية دالة على براءة أمه مما عسى أن يقذفها به متعسف ظان، والْمَهْدِ موضع اضطجاع الصبي وقت تربيته، وأخبر تعالى عنه أنه أيضا يكلم الناس كَهْلًا،