المحرر الوجيز، ج ١، ص : ٤٧
وقال أيضا :«ما كنت أدري معنى قوله : رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف : ٨٩] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك أي أحاكمك».
وكذلك قال عمر بن الخطاب، وكان لا يفهم معنى قوله تعالى : أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النحل :
٤٧] فوقف به فتى فقال :«إن أبي يتخوفني حقي» فقال عمر :«اللّه أكبر، أو يأخذهم على تخوف أي على تنقص لهم».
وكذلك اتفق لقطبة بن مالك إذ سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ في الصلاة : وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق : ١٠]، ذكره مسلم في باب القراءة في صلاة الفجر، إلى غير هذا من الأمثلة.
فأباح اللّه تعالى لنبيه هذه الحروف السبعة وعارضه بها جبريل في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز وجودة الوصف، ولم تقع الإباحة في قوله عليه السلام :«فاقرؤوا ما تيسر منه» بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه. ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن وكان معرضا أن يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند اللّه وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي عليه السلام ليوسع بها على أمته، فقرأ مرة لأبيّ بما عارضه به جبريل صلوات اللّه عليهما، ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضا.
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال :«أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف».
وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان وقراءة هشام بن حكيم لها، وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي صلى اللّه عليه وسلم في قراءة كل منهما - وقد اختلفتا - : هكذا أقرأني جبريل؟ هل ذلك إلا لأنه أقرأه بهذه مرة وبهذه مرة. وعلى هذا يحمل قول أنس بن مالك حين قرأ إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا [المزمل : ٦]، فقيل له : إنما تقرأ وأقوم، فقال أنس :«أصوب وأقوم وأهيأ واحد». فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وإلا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه لبطل معنى قول اللّه تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر : ٩].
ثم إن هذه الروايات الكثيرة لما انتشرت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وافترق الصحابة في البلدان، وجاء الخلف وقرأ القرآن كثير من غير العرب، وقع بين أهل الشام والعراق ما ذكر حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه، وذلك أنهم لما اجتمعوا في غزوة أرمينية، فقرأت كل طائفة بما روي لها، فاختلفوا وتنازعوا حتى قال بعضهم لبعض :«أنا كافر بما تقرأ به» فأشفق حذيفة مما رأى منهم. فلما قدم حذيفة المدينة فيما ذكر البخاري وغيره دخل إلى عثمان بن عفان قبل أن يدخل بيته، فقال : أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك، قال : فيما ذا؟ قال : في كتاب اللّه، إني حضرت هذه الغزوة وجمعت ناسا من العراق، ومن الشام، ومن الحجاز، فوصف له ما تقدم وقال : إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلفت اليهود والنصارى، قال عثمان رضي اللّه عنه : أفعل، فتجرد للأمر، واستناب الكفاة العلماء الفصحاء في أن يكتبوا القرآن ويجعلوا ما اختلفت القراءة فيه على أشهر الروايات عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأفصح