المحرر الوجيز، ج ١، ص : ٥٢
نبذة مما قال العلماء في إعجاز القرآن
اختلف الناس في إعجاز القرآن بم هو؟ فقال قوم :«إن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، وإن العرب كلفت في ذلك ما لا يطاق، وفيه وقع عجزها».
وقال قوم :«إن التحدي وقع بما في كتاب اللّه تعالى من الأنباء الصادقة، والغيوب المسرودة».
وهذان القولان إنما يرى العجز فيهما من قد تقررت الشريعة ونبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم في نفسه.
وأما من هو في ظلمة كفره فإنما يتحدى فيما يبين له بينه وبين نفسه عجزه عنه، وأن البشر لا يأتي بمثله ويتحقق مجيئه من قبل المتحدي، وكفار العرب لم يمكنهم قط أن ينكروا أن رصف القرآن ونظمه وفصاحته متلقى من قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم. فإذا تحديت إلى ذلك وعجزت فيه علم كل فصيح ضرورة أن هذا نبي يأتي بما ليس في قدرة البشر الإتيان به، إلا أن يخص اللّه تعالى من يشاء من عباده.
وهذا هو القول الذي عليه الجمهور والحذاق وهو الصحيح في نفسه أن التحدي إنما وقع بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه.
ووجه إعجازه أن اللّه تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحاط بالكلام كله علما، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل، والنسيان، والذهول، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا.
فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا النظر يبطل قول من قال :«إن العرب كان من قدرتها أن تأتي بمثل القرآن فلما جاء محمد صلى اللّه عليه وسلم صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه».
والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم تعطى لآخر نظيره فيأخذها بقريحة جامة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل، كتاب اللّه لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد. ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام.
ألا ترى ميز الجارية نفس الأعشى وميز الفرزدق نفس جرير من نفس ذي الرمة ونظر الأعرابي في قوله :«عز فحكم فقطع» إلى كثير من الأمثلة اكتفيت بالإشارة إليها اختصارا.