المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ١٧٦ وقال لهم : أشيروا عليّ أيها الناس، فقال له المقداد هذه المقالة في كلام طويل، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، ثم تكلم من الأنصار سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى ولكن سبقه المقداد إلى التمثيل بالآية.
قال القاضي أبو محمد : وتمثل المقداد بها وتقرير النبي صلى اللّه عليه وسلم لذلك يقتضي أن الرب إنما أريد به اللّه تعالى، ويونس أيضا في إيمان بني إسرائيل، لأن المقداد قد قال : اذهب أنت وربك فقاتلا، وليس لكلامه معنى إلا أن اللّه تعالى يعينك ويقاتل معك ملائكته ونصره فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك، أي اذهب أنت ويخرجهم اللّه بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها، وحسنت عبارة المقداد لاقتران الطاعة والإقدام بها.
ولما سمع موسى عليه السلام قولهم ورأى عصيانهم تبرأ إلى اللّه تعالى منهم، وقال داعيا عليهم :
رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي يعني هارون، وقوله : وَأَخِي يحتمل أن يكون إعرابه رفعا إما على الابتداء والتقدير وأخي لا يملك إلا نفسه، وإما على العطف على الضمير الذي في أَمْلِكُ تقديره لا أملك أنا، ويحتمل أن يكون إعرابه نصبا على العطف على نَفْسِي، وذلك لأن هارون كان يطيع «موسى» فلذلك أخبر أنه يملكه، وقرأ الحسن «إلا نفسي وأخي» بفتح الياء فيهما، وقوله : فَافْرُقْ بَيْنَنا دعاء حرج، قال السدي، هي عجلة عجلها موسى عليه السلام، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما : المعنى افصل بيننا وبينهم بحكم وافتح، فالمعنى احكم بحكم يفرق هذا الاختلاف ويلم الشعث.
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل فليس في الدعاء عجلة، وقال قوم : المعنى «فافرق بيننا وبينهم» في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق، ويحتمل الدعاء أن يكون معناه :«فرق بيننا وبينهم» بمعنى أن يقول فقدنا وجوههم «و فرق بيننا وبينهم» حتى لا نشقى بفسقهم، وبهذا الوجه تجيء العجلة في الدعاء، وقرأ عبيد بن عمير «فافرق» بكسر الراء.
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ المعنى قال اللّه، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازا لدلالة معنى الكلام على المراد، وحرم اللّه تعالى على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أَرْبَعِينَ سَنَةً وتركهم خلالها يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرض تلك النازلة، وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثمانين ميلا في عرض ستة فراسخ، وهو ما بين مصر والشام، ويروى أنه اتفق أنه مات كل من كان قال إنّا لن ندخلها أبدا، ولم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث، ويروى أن هارون عليه السلام مات في فحص التيه في خلال هذه المدة ولم يختلف فيها، وروي أن «موسى» عليه السلام مات فيه بعد هارون بثمانية أعوام، وقيل بستة أشهر ونصف، وأن يوشع نبىء بعد كمال «الأربعين سنة». وخرج ببني إسرائيل وقاتل الجبارين وفتح المدينة، وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين، وروي أن «موسى» عليه السلام عاش حتى كملت الأربعون وخرج بالناس وحارب الجبارين ويوشع وكالب على مقدمته، وأنه فتح المدينة وقتل بيده عوج بن عناق، يقال كان في طول «موسى» عشرة أذرع وفي طول عصاه عشرة أذرع، ونزل من الأرض في السماء عشرة أذرع. وحينئذ لحق كعب عوج فضربه بعصاه في كعبه فخر صريعا، ويروى أن عوجا اقتلع صخرة ليطرحها على عسكر بني إسرائيل فبعث اللّه هدهدا بحجر الماس


الصفحة التالية
Icon