المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ٢٧٩
فقال ابن عباس لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا
مؤمن قالوا تعالوا فلنجحد، وقالوا ما كنا مشركين فختم اللّه على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون اللّه حديثا.
قال القاضي أبو محمد : وعبد بعض المفسرين عن الفتنة هنا بأن قالوا معذرتهم، قاله قتادة، وقال آخرون كلامهم قاله الضحاك، وقيل غير هذا مما هو كله في ضمن ما ذكرناه، وقوله تعالى انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا الآية، الخطاب لمحمد عليه السلام والنظر نظر القلب، وقال كذبوا في أمر لم يقع إذ هي حكاية يوم القيامة فلا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل، ويفيدنا استعمال الماضي تحقيقا ما في الفعل وإثباتا له، وهذا مهيع في اللغة، ومنه قول الربيع بن ضبع الفزاري :[المنسرح ]
أصبحت لا أحمل السّلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
يريد أن ينفر وَضَلَّ عَنْهُمْ معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكذبهم بادعائهم للّه تبارك وتعالى الشركاء.
قوله عز وجل :
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٥]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)
الضمير في قوله وَمِنْهُمْ عائد على الكفار الذين تضمنهم قبل قوله يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً [الأنعام : ٢٢] وأفرد يَسْتَمِعُ وهو فعل جماعة حملا على لفظ مَنْ وأَكِنَّةً جمع كنان وهو الغطاء الجامع، ومنه كنانة السهام والكنّ، ومنه قوله تعالى : بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات : ٤٩] ومنه قول الشاعر :
[الطويل ]
إذا ما انتضوها في الوغى من أكنّة حسبت بروق الغيث هاجت غيومها
وفعال وأفعلة مهيع في كلامهم وأَنْ يَفْقَهُوهُ نصب على المفعول من أجله أي كراهية أن يفهموه، وقيل المعنى أن لا يفقهوه، ويلزم هذا القول إضمار حرف النفي، ويَفْقَهُوهُ معناه يفهموه، ويقال فقه الرجل بكسر القاف إذا فهم الشيء وفقه بضمها : إذا صار فقيها له ملكة، وفقه إذا غلب في الفقه غيره، والوقر : الثقل في السمع، يقال وقرت أذنه ووقرت بكسر القاف وفتحها، ومنه قول الشاعر :[الرمل ]
وكلام سيّء قد وقرت أذني وما بي من صمم
وقد سمع أذن موقورة فالفعل على هذا وقرت، وقرأ طلحة بن مصرف :«وقرا» بكسر الواو كأنه ذهب إلى أن آذانهم وقرت بالصمم كما توقر الدابة من الحمل وهي قراءة شاذة، وهذا عبارة عما جعل اللّه في نفوس هؤلاء القوم من الغلط والبعد عن قبول الخير لا أنهم لم يكونوا سامعين لأقواله، وقوله تعالى : وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ الآية، الرؤية هنا الرؤية العين يريد كانشقاق القمر وشبهه.
قال القاضي أبو محمد : ومقصد هذه الآية أنهم في أعجز درجة وحاولوا رد الحق بالدعوى المجردة