المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ٣٧٦
وروي هذا القول عن مجاهد والضحاك وغيره، وكذلك استعير على قولهم الثقل والخفة لكثرة الحسنات وقلتها، وقال جمهور الأمة : إن اللّه عز وجل أراد أن يعرض لعباده يوم القيامة تحرير النظر وغاية العدل بأمر قد عرفوه في الدنيا وعهدته أفهامهم، فميزان القيامة له عمود وكفتان على هيئة موازين الدنيا، قال حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه : صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، وقالوا : هذا الذي اقتضاه لفظ القرآن ولم يرده نظر.
قال القاضي أبو محمد : فينبغي أن يجري في هذه الألفاظ إلى حملها على حقائقها، وأما «الثقل» و«الخفة» فإن الآثار تظاهرت بأن صحائف الحسنات والسيئات توضع في كفتي الميزان فيحدث اللّه في الجهة التي يريد ثقلا وخفة على نحو إحداثه ذلك في جسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في وقت نزول الوحي عليه، ففي الصحيح من حديث زيد بن ثابت أنه قال : كنت أكتب حتى نزلت غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء :
٩٥] وفخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على فخذي حتى كادت أن ترض فخذي، وفي الحديث أنه كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به عجزا عن حمله لثقل الحادث فيه، ولا بد لنا أن نعلم أن الثقل الحادث مع الحسنات إنما يتعلق بجسم، إذ العرض لا يقوم بالعرض، فجائز أن يحدث الثقل في الصحائف وهو أقربها إلى الظن، وجائز أن يحدث في ذلك من الأجسام المجاورة لتلك الحال، وإلى حدوثه في الصحائف ذهب أبو المعالي، ورويت في خبر الميزان آثار عن صحابة وتابعين في هيئته وطوله وأحواله لم تصح بالإسناد، فلم نر للإطالة بها وجها، وقال الحسن فيما روي عنه : بلغني أن لكل أحد يوم القيامة ميزانا على حدة.
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مردود الناس على خلافه، وإنما لكل أحد وزن يختص به والميزان واحد، وروي عن مجاهد في قوله ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أن «الموازين» الحسنات نفسها.
قال القاضي أبو محمد : وجمع لفظ «الموازين» إذ في الميزان موزونات كثيرة فكأنه أراد التنبيه عليها بجمعه لفظ الميزان. والْمُفْلِحُونَ في اللغة المدركون لبغيتهم الناجحون في طلبهم ومنه قول عبيد :
[الرجز]
أفلح بما شئت فقد يبلغ بالض ضعف وقد يخدع الأريب
فأما قول الشاعر :[المنسرح ]
والمسي والصبح لا فلاح معه
فقد قيل إنه بمعنى البقاء.
قال القاضي أبو محمد : والبقاء بلوغ بغية فالمعنيان متقاربان، ووزن اللّه تعالى أعمال العباد مع علمه بدقائق الأشياء وجلائلها نظير كتبه أعمالهم في صحائفهم واستنساخه ذلك ونظير استنطاقه جوارحهم بالشهادة عليهم إقامة للحجة وإيضاحا، فقد تقرر في الشرع أن كلمة التوحيد ترجح ميزان من وزنت في أعماله ولا بد، فإن قال قائل كيف تثقل موازين العصاة من المؤمنين بالتوحيد ويصح لهم حكم الفلاح ثم


الصفحة التالية
Icon