المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ٥٠٧
قال القاضي أبو محمد : والصحيح من القول وهو الذي في سيرة ابن إسحاق وغيرها أن المؤمنين سبقوا إلى الماء ببدر، وفي هذا كلام حباب بن المنذر الأنصاري حين نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أول ماء، فقال له حباب : أبوحي يا رسول اللّه هو المنزل فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو عندك الرأي والمكيدة؟ الحديث المستوعب في السيرة.
قال القاضي أبو محمد : ولكن نزول المطر كان قبل وصولهم إلى الماء وذلك أن القوم من المؤمنين لحقتهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء قريب بدر فصلوا كذلك فوقع في نفوسهم من ذلك، ووسوس الشيطان لهم في ذلك مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقتلهم، وهذا قبل الترائي بالأعين، وأيضا فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر فتحرضوا هم أن يسبقوهم إليه فأنزل اللّه تلك المطرة فسالت الأودية فاغتسلوا وطهرهم اللّه فذهب رجز الشيطان وتدمت الطريق وتلبدت تلك الرملة فسهل المشي فيها وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى الماء، ووقع في السير أن ما أصاب المشركين من ذلك المطر بعينه صعب عليهم طريقهم، فسر المؤمنون وتبينوا من جعل اللّه بهم ذلك قصد المعونة لهم، فطابت نفوسهم واجتمعت وتشجعت، فذلك الربط على قلوبهم وتثبيت الأقدام منهم على الرملة اللينة فأمكنهم لحاق الماء قبل المشركين.
قال القاضي أبو محمد : هذا أحد ما يحتمله قوله وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ والضمير في بِهِ على هذا الاحتمال عائد على الماء، ويحتمل أن يعود الضمير في بِهِ على ربط القلوب فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب، وبين أن الرابط الجأش تثبت قدمه عند مكافحة الهول.
قال القاضي أبو محمد : ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس ولم يترتب ذلك في الآية إذ القصد فيها تعديد النعم فقط، وحكى أبو الفتح أن الشعبي قرأ «و ينزل عليكم من السماء ما» ساكنة الألف لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ قال : وهي بمعنى الذي.
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وقرأ ابن المسيب «ليطهركم به» بسكون الطاء، وقوله تعالى :
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ الآية، العامل في إِذْ العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها، ولو قدرناه قريبا لكان قوله وَيُثَبِّتَ على تأويل عود الضمير على الربط، وأما على عوده على الماء فيقلق أن تعمل وَيُثَبِّتَ في إِذْ ووحي اللّه إلى الملائكة إما بإلهام أو بإرسال بعض إلى بعض، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه «إني معكم» بكسر الألف على استئناف إيجاب القصة، وقرأ جمهور الناس «أني» بفتح الألف على أنها معمولة ل يُوحِي، ووجه الكسر أن الوحي في معنى القول، وقوله فَثَبِّتُوا يحتمل أن يكون بالقتال معهم على ما روي.
ويحتمل بالحضور في حيزهم والتأنيس لهم بذلك، ويحتمل أن يريد : فثبوتهم بأقوال مؤنسة مقوية للقلب، وروي في ذلك أن بعض الملائكة كان في صورة الآدميين فكان أحدهم يقول للذي يليه من المؤمنين : لقد بلغني أن الكفار قالوا لئن حمل المسلمون علينا لننكشفن، ويقول آخر : ما أرى الغلبة والظفر إلا لنا. ويقول آخر : أقدم يا فلان، ونحو هذا من الأقوال المثبتة.