المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ٥٠٨
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أيضا أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان بلمته من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى : سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وإن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد.
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل يجيء قوله سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ مخاطبة للملائكة، ثم يجيء قوله تعالى : فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت حربا لمن تخاطبه لقينا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك، أي هذه كانت صفة الحال.
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون سَأُلْقِي إلى آخر الآية خبرا يخاطب به المؤمنين عما يفعله في الكفار في المستقبل كما فعله في الماضي، ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعا لهم وحضا على نصرة الدين، وقرأ الأعرج «الرعب» بضم العين والناس على تسكينها، واختلف الناس في قوله فَوْقَ الْأَعْناقِ، فقال الأخفش فَوْقَ زيادة، وحكاه الطبري عن عطية أن المعنى فاضربوا الأعناق وقال غيره بمعنى على، وقال عكرمة مولى ابن عباس : هي على بابها وأراد الرؤوس إذ هي فوق الأعناق، وقال المبرد : وفي هذا إباحة ضرب الكافر في الوجه.
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل أنبلها، ويحتمل عندي أن يريد بقوله فَوْقَ الْأَعْناقِ وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل، وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمة السلمي حين قال له خذ سيفي وارفع به عن العظم واخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال، ومثله قول الشاعر :[الوافر].
جعلت السيف بين الجيد منه وبين أسيل خديه عذارا
فيجيء على هذا فَوْقَ الْأَعْناقِ متمكنا، وقال ابن قتيبة فَوْقَ في هذه الآية بمعنى دون، وهذا خطأ بين، وإنما دخل عليه اللبس من قوله تعالى : ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة : ٢٦] أي فما دونها.
قال القاضي أبو محمد : وليست فَوْقَ هنا بمعنى دون وإنما المراد فما فوقها في القلة والصغر فأشبه المعنى دون وال بَنانٍ قالت فرقة : هي المفاصل حيث كانت من الأعضاء، فالمعنى على هذا واضربوا منهم في كل موضع، وقالت فرقة : البنان الأصابع، وهذا هو القول الصحيح، فعلى هذا التأويل وإن كان الضرب في كل موضع مباحا فإنما قصد أبلغ المواضع لأن المقاتل إذا قطع بنانه استأسر ولم ينتفع بشيء من أعضائه في مكافحة وقتال.
قوله عز وجل :
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٣ الى ١٦]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)