المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ٥١٠
وأمر اللّه عز وجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين فالفرض أن لا يفروا أمامهم، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع الأكثر من الأمة، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب اللّه عز وجل : وهذا قول جمهور الأمة، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة : يراعى أيضا الضعف والقوة والعدة فيجوز على قولهم أن تفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة، لأنها بشعة على الفار ذامة له، وقرأ الجمهور «دبره» بضم الباء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «دبره» بسكون الباء، واختلف المتأولون في المشار إليه بقوله يَوْمَئِذٍ فقالت فرقة الإشارة إلى يوم بدر وما وليه، وفي ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فر، ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف، وبقي الفرار من الزحف ليس بكبيرة وقد فر الناس يوم أحد فعفا اللّه عنهم، وقال فيهم يوم حنين : ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة : ٢٥] ولم يقع على ذلك تعنيف.
قال القاضي أبو محمد : وقال الجمهور من الأمة : الإشارة ب يَوْمَئِذٍ إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله إِذا لَقِيتُمُ وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه اللّه تعالى في آية أخرى، وليس في الآية نسخ، وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه، وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف أمام الكثرة، ويحتمل أن عفو اللّه عمن فر يوم أحد كان عفوا عن كبيرة، ومُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدو وأعود عليه بالشر ونصبه على الحال، وكذلك نصب متحيز، وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم مَنْ، وقال قوم : الاستثناء هو من أنواع التولي.
قال القاضي أبو محمد : ولو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفا وتحيزا، والفئة هاهنا الجماعة من الناس الحاضرة للحرب، هذا على قول الجمهور في أن الفرار من الزحف كبيرة، وأما على القول الآخر فتكون الفئة المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا، روي هذا القول عن عمر رضي اللّه عنه وأنه قال : أنا فئتكم أيها المسلمون.
قال القاضي أبو محمد : وهذا منه على جهة الحيطة على المؤمنين إذ كانوا في ذلك الزمن يثبتون لأضعافهم مرارا، وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق عبد اللّه بن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لجماعة فرت في سرية من سراياه :«أنا فئة المسلمين» حين قدموا عليه، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :«اتقوا السبع الموبقات» وعدد فيها الفرار من الزحف، وباءَ بمعنى نهض متحملا للثقل المذكور في الكلام غضبا كان أو نحوه، والغضب من صفات اللّه عز وجل إذا أخذ بمعنى الإرادة فهي صفة ذات، وإذا أخذ بمعنى إظهار أفعال الغاضب على العبد فهي صفة فعل، وهذا المعنى أشبه بهذه الآية، والمأوى الموضع الذي يأوي إليه الإنسان.


الصفحة التالية
Icon