المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ١٥٥
ثم أنسه تعالى بقوله : إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، أي هذا القدر هو الذي فوض إليك، واللّه تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء وكفر من شاء.
وقوله تعالى : أَمْ يَقُولُونَ... الآية، هذه أَمْ التي هي عند سيبويه بمعنى بل وألف الاستفهام، كأنه أضرب عن الكلام الأول، واستفهم في الثاني على معنى التقرير، كقولهم : إنها لإبل أم شاء، و«الافتراء» أخص من الكذب، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر، وجاء بأمر عظيم منكر، ووقع التحدي في هذه الآية بِعَشْرِ لأنه قيدها بالافتراء، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة : ٢٣، يونس : ٣٨] دون تقييد فهذه مماثلة تامة في غيوب القرآن ومعانيه الحجة، ونظمه ووعده ووعيده وعجزوا في هذه الآية بل قيل لهم عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير والغرض واحد واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه فهذه غاية التوسعة وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر، لأن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ولا تبالي عن تقديم نزول هذه على هذه : ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم افْتَراهُ فكلفوا نحو ما قالوا : ولا يطرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس : هذه مقدمة في النزول على تلك، ولا يصح أن يعجزوا في واحدة فيكلفوا عشرا والتكليفان سواء، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة وآية سورة يونس في تكليف سورة متركبة على قولهم : افْتَراهُ، وكذلك آية البقرة وإنما ريبهم بأن القرآن مفترى.
قال القاضي أبو محمد : وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين : في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة.
ومَنِ في قوله : مَنِ اسْتَطَعْتُمْ يراد بها الآلهة والأصنام والشياطين وكل ما كانوا يعظمونه، وقوله : إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يريد في أن القرآن مفترى.
قوله عز وجل :
[سورة هود (١١) : الآيات ١٤ الى ١٦]
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
لهذه الآية تأويلان :
أحدهما أن تكون المخاطبة من النبي صلى اللّه عليه وسلم للكفار أي فإن لم يستجب من تدعون إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليها، فأذعنوا حينئذ واعلموا أنه من عند اللّه ويأتي قوله : فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ متمكنا.