المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٣٧٥
قال القاضي أبو محمد : ومن قال جعلوه أعضاء فإنما أراد قسموه كما تقسم الجزور أعضاء، وقوله فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ إلى آخر الآية، ضمير عام ووعيد محض يأخذ كل أحد منه بحسب جرمه وعصيانه، فالكافر يسأل عن لا إله إلا اللّه وعن الرسل وعن كفره وقصده به، والمؤمن العاصي يسأل عن تضييعه، والإمام عن رعيته، وكل مكلف عما كلف القيام به، وفي هذا المعنى أحاديث، وقال أبو العالية في تفسير هذه الآية : يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة عما كانوا يعبدون وماذا أجابوا المرسلين، وقال في تفسيرها أنس بن مالك وابن عمر ومجاهد : إن السؤال عن لا إله إلا اللّه، وذكره الزهراوي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقال ابن عباس في قوله فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ، قال يقال لهم : لم عملتم كذا وكذا؟ قال وقوله تعالى : فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن : ٣٩] معناه يقال له ما أذنبت لأن اللّه تعالى أعلم بذنبه منه.
قوله عز وجل :
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٤ الى ٩٩]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
فَاصْدَعْ معناه فانفد وصرح بما بعثت به، والصدع التفريق بين ملتئم كصدع الزجاجة ونحوه، فكأن المصرح بقول يرجع إليه، يصدع به ما سواه مما يضاده، والصديع الصبح لأنه يصدع الليل، وقال مجاهد : نزلت في أن يجهر بالقرآن في الصلاة، وفي تُؤْمَرُ ضمير عائد على «ما»، تقديره ما تؤمر به أو تؤمره وفي هذين تنازع، وقوله وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ من آيات المهادنات التي نسختها آية السيف، قاله ابن عباس، ثم أعلمه اللّه تعالى بأنه قد كفاه الْمُسْتَهْزِئِينَ من كفار مكة ببوائق إصابتهم من اللّه تعالى لم يسع فيها محمد ولا تكلف فيها مشقة، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير :«المستهزءون» خمسة نفر : الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة، وهو ابن غيطلة، وهو ابن قيس، قال أبو بكر الهذلي : قلت للزهري : إن ابن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين، فقال ابن جبير هو الحارث بن غيطلة، وقال عكرمة هو الحارث بن قيس، فقال الزهري صدقا أمه غيطلة وأبوه قيس وذكر الشعبي في الْمُسْتَهْزِئِينَ هبار بن الأسود، وذلك وهم لأن هبارا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة، وذكر الطبري عن ابن عباس : أن الْمُسْتَهْزِئِينَ كانوا ثمانية كلهم مات قبل بدر، وروي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في المسجد، فأتاه جبريل فجاز الوليد فأومأ جبريل بأصبعه إلى ساقه، وقال للنبي عليه السلام : كفيت ثم جاز العاصي، فأومأ إلى أخمصه، وقال : كفيت، ثم مر أبو زمعة فأومأ إلى عينه، ثم مر الأسود بن عبد يغوث، فأومأ إلى أخمصه، وقال : كفيت، ثم مر أبو زمعة فأومأ إلى عينه، ثم مر الأسود بن عبد يغوث، فأومأ إلى رأسه، وقال كفيت، ثم مر الحارث، فأومأ إلى بطنه، وقال : كفيت، وكان الوليد قد مر بقين في خزاعة