المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٤٣١
يشبه النون في حال سكونها حروف العلة لغنتها وخفتها وأنها قد تكون علامة وغير ذلك، فكأن «لم» دخلت على «يكن» في حال الجزم. ولا تحذف النون إذا لم تكن ساكنة في نحو قوله لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة : ١] ولا يحذف في مثل هذا إلا في الشعر فقد جاءت محذوفة، وقوله مِنَ الْمُشْرِكِينَ يشير إلى تبرؤ حال إبراهيم عليه السلام من حال مشركي العرب ومشركي اليهود إذ كلهم ادعاه ويلزم الإشراك اليهود من جهة تجسيمهم، وشاكِراً، صفة لإبراهيم تابعة ما تقدم، و«الأنعم» جمع نعمة، واجْتَباهُ معناه تخيره، وباقي الآية بين. وقوله وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً الآية، «الحسنة» لسان الصدق وإمامته لجميع الخلق، هذا قول جميع المفسرين وذلك أن كل أمة متشرعة فهي مقرة أن إيمانها إيمان إبراهيم وأنه قدوتها وأنه كان على الصواب. وقوله لَمِنَ الصَّالِحِينَ بمعنى المنعم عليهم أي من الصالحين في أحوالهم ومراتبهم، أو بمعنى أنه في الآخرة ممن يحكم له بحكم الصالحين في الدنيا، وهذا على أن الآية وصف حاليه في الدارين، ويحتمل أن يكون المعنى وأنه في عمل الآخرة، فعلى هذا هي وصف حالي في الدنيا الدنياوية والأخراوية.
وقوله ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية، الوحي إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم بهذا من جملة الحسنة التي آتاها اللّه إبراهيم، قال ابن فورك وأمر الفاضل باتباع المفضول لما تقدم إلى الصواب والعمل به وأَنِ في قوله أَنِ اتَّبِعْ مفسرة، ويجوز أن تكون مفعولة، و«الملة» الطريقة في عقائد الشرع، وحَنِيفاً حال، والعامل فيه الفعلية التي في قوله مِلَّةَ إِبْراهِيمَ، ويجوز أن تكون حالا من الضمير المرفوع في اتَّبِعْ قال مكي : ولا يكون حالا من إبراهيم، لأنه مضاف إليه : وليس كما قال لأن الحال قد تعمل فيه حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال، كقولك مررت بزيد قائما، وقوله إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ أي لم يكن من ملة إبراهيم وإنما جعله اللّه فرضا عاقب به القوم المختلفين فيه، قاله ابن زيد، وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل أن يجعلوا من الجمعة يوما مختصا بالعبادة وأمرهم أن يكون الجمعة، فقال جمهورهم : بل يكون يوم السبت لأن اللّه فرغ فيه من خلق مخلوقاته، فقال غيرهم : بل نقبل ما أمر اللّه به موسى، فراجعهم الجمهور فتابعهم الآخرون فألزمهم اللّه يوم السبت إلزاما قويا عقوبة لهم منه، فلم يكن منهم ثبوت بل عصوا فيه وتعدوا فأهلكهم، وقرأ الأعمش «إنما أنزلنا السبت»، وهي قراءة ابن مسعود وقرأ أبو حيوة «جعل» بفتح الجيم والعين.
قال القاضي أبو محمد : وورد في الحديث أن اليهود والنصارى اختلفوا في اليوم الذي يختص من الجمعة فأخذ هؤلاء السبت وهؤلاء الأحد فهدانا اللّه نحن إلى يوم الجمعة، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه»، فليس الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف الذي في الحديث، وباقي الآية وعيد بين.
قوله عز وجل :
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٨]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)