المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٤٤٢
قوله عز وجل :
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)
«الآية» العلامة المنصوبة للنظر والعبرة، وقوله فَمَحَوْنا قالت فرقة : سبب تعقيب الفاء أن اللّه تعالى خلق الشمس والقمر مضيئين فمحا بعد ذلك القمر محاه جبريل بجناحيه ثلاثة مرات فمن هنالك كلفه وكونه منيرا فقط، وقالت فرقة، وهو الظاهر : إن قوله فَمَحَوْنا إنما يريد في أصل خلقته، وهذا كما تقول بنيت داري فبدأت بالأس، ثم تابعت فلا تريد بالفاء التعقيب، وظاهر لفظ الآية يقتضي أربع آيات لا سيما لمن بنى على أن القمر هو الممحو والشمس هي المبصرة، فأما إن قدر الممحو في إظلام الليل والإبصار في ضوء النهار أمكن أن تتضمن الآية آيَتَيْنِ فقط، على أن يكون فيها طرف من إضافة الشيء إلى نفسه، وقوله مُبْصِرَةً مثل قولك ليل قائم ونائم أي ينام فيه ويقام، فكذلك «آية مبصرة» أي يبصر بها ومعها، وحكى الطبري عن بعض الكوفيين أنه قال : قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : سلوا عما شئتم فقال ابن الكوّاء : ما السواد الذي في القمر؟ فقال له علي : قاتلك اللّه هلا سألت عن أم دينك وآخرتك ذلك محو الليل وجعل اللّه تعالى النهار مبصرا ليبتغي الناس الرزق، وفصل اللّه، وجعل القمر مخالفا للشمس ليعلم به العدد من السنين والحساب للأشهر وللأيام، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة القمر لا من جهة الشمس، وقوله كُلَّ شَيْءٍ منصوب بفعل مضمر يدل عليه الظاهر تقديره وفصلنا كل شيء فصلناه تفصيلا وقيل : وكُلَّ عطف على وَالْحِسابَ فهو معمول لِتَعْلَمُوا، والتفصيل البيان بأن تذكر فصول ما بين الأشياء وتزال أشباهها حتى يتميز الصواب من الشبه العارضة فيه، وقوله وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ الآية، قوله كُلَّ منصوب بفعل مقدر، وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد «طيره في عنقه»، قال ابن عباس طائِرَهُ ما قدر له وعليه، وخاطب اللّه العرب في هذه الآية بما تعرف، وذلك أنه كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة
وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلاة، وسميت ذلك كله تطيرا، وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر، فأخبرهم اللّه تعالى في هذه الآية في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر قد سبق به القضاء. وألزم حظه وعمله وتكسبه في عنقه، وروى جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :«لا عدوى ولا طيرة».
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان ب «الطائر»، قال مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير، وقولهم في أمور على الطائر الميمون، وبأسعد طائر ومنه ما طار في المحاجة والسهم كقول أم العلا الأنصارية فطار لنا من القادمين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الهجرة عثمان بن مظعون، أي كان ذلك حظنا، وأصل هذا كله من الطير التي تقضي عندهم بلقاء الخير