المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٤٨٤
الافتراء في السورة لأنه لم يجر عنهم ذكر ذلك قبل، بل قال إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة : ٢٣] على أنه قد جاء ذكر السورة مع ذكرهم الافتراء في سورة هود وقد اختلف الناس في هذا الموضع فقيل دعوا إلى السورة المماثلة في النظم والغيوب وغير ذلك من الأوصاف، وكان ذلك من تكليف ما لا يطاق، فلما عسر عليهم خفق بالدعوة إلى المفتريات، وقيل غير هذا مما ينحل عند تحصيله.
قوله عز وجل :
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٩ الى ٩٢]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢)
هذه الآية تنبه على فضل اللّه في القرآن على العالم، وتوبيخ للكفار منهم على قبيح فعلهم، وتصريف القول هو ترديد البيان عن المعنى، وقرأ الجمهور «صرّفنا» بتشديد الراء، وقرأ الحسن «صرفنا» بفتح الراء خفيفة، وقوله مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يجوز أن تكون مِنْ لابتداء الغاية، ويكون المفعول ب صَرَّفْنا مقدرا تقديره «و لقد صرفنا في هذا القرآن التنبيه والعبر من كل مثل ضربناه»، ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة، التقدير «و لقد صرفنا كل مثل»، وهذا كقوله تعالى : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة : ١٢٥]. وقوله فَأَبى عبارة عن تكسب الكفار الكفر وإعراضهم عن الإيمان، وفي العبارة يأبى تغليظ، والكفر بالخلق والاختراع هو من فعل اللّه تعالى، وبالتكسب والدؤوب هو من الإنسان، وكُفُوراً مصدر كالخروج. وقوله تعالى : وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «حتى تفجّر»، وقرأ عاصم وحمزة الكسائي حتى «تفجر» بفتح التاء وضم الجيم، وفي القرآن فَانْفَجَرَتْ [البقرة : ٦٠]، وانفجر مطاوع فجر فهذا مما يقوي القراءة الثانية، وأما الأولى فتقتضي المبالغة في التفجير. و«الينبوع» الماء النابع، وهي صفة مبالغة إنما تقع للماء الكثير، وطلبت قريش هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة، وإياها عنوا ب الْأَرْضِ، وإنما يراد بإطلاق لفظة الْأَرْضِ هنا الأرض التي يكون فيها المعنى المتكلم فيه، كقوله أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة : ٣٣] فإنما يريد من أرض تصرفهم وقطعهم السبل ومعاشهم، وكذلك أيضا اقتراحهم الجنة إنما هو بمكة لامتناع ذلك فيها، وإلا ففي سائر البلاد كان ذلك يمكنه وإنما طلبوه بأمر إلهي في ذلك الموضع الجدب، وقرأ الجمهور «جنة»، وقرأ «حبة» المهدوي، وقوله فَتُفَجِّرَ.
تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية، كغلقت الأبواب، وخِلالَها ظرف، ومعناه أثناءها وفي داخلها، وروي في قول هذه المقالة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حديث طويل، مقتضاه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وعبد اللّه بن أبي أمية، والنضر بن الحارث وغيرهم من مشيخة قريش وسادتها، اجتمعوا عليه فعرضوا عليه أن يملكوه إن أراد الملك، أو يجمعوا له كثيرا من المال إن أراد الغنى، أو يطبوه إن كان به داء ونحو هذا من الأقاويل، فدعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند ذلك