المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٥٢٢
جنا، لكن جميع الشياطين اليوم من ذريته، فهو كنوح في الإنس، احتجوا بهذه الآية، وتعنيف إِبْلِيسَ على عصيانه يقتضي أنه أمر مع الملائكة، وقالت فرقة إن الاستثناء متصل، وإبليس من قبيل الملائكة خلقوا من نار، فإبليس من الملائكة وعبر عن الملائكة بالجن من حيث هم مستترون، فهي صفة تعم الملائكة والشياطين، وقال بعض هذه الفرقة كان في الملائكة صنف يسمى الجن وكانوا في السماء الدنيا وفي الأرض، وكان إبليس مدبر أمرهم ولا خلاف أن إبليس كان من الملائكة في المعنى، إذ كان متصرفا بالأمر والنهي، مرسلا، والملك مشتق من المالكة، وهي الرسالة، فهو في عداد الملائكة يتناوله قول اسْجُدُوا وفي سورة البقرة وسورة الأعراف استيعاب هذه الأمور، وقوله فَفَسَقَ معناه فخرج وانتزح، وقال رؤبة :
[الرجز]
تهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
ومنه قال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت النواة إذا خرجت عن الثمرة، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وجميع هذا الخروج المستعمل في هذه الأمثلة، إنما هو في فساد، وقول النبي صلى اللّه عليه وسلم «خمس فواسق يقتلن في الحرم إنما هن مفسدات» وقوله عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ يحتمل أن يريد خرج عن أمر ربه إياه، أي فارقه كما فعل الخارج عن طريق واحد، أي منه، ويحتمل أن يريد فخرج عن الطاعة بعد أمر ربه بها، وعَنْ قد تجيء بمعنى بعد في مواضع كثيرة، كقولك أطعمتني عن جوع، ونحوه، فكأن المعنى : فسق بعد أمر ربه بأن يطيع ويحتمل أن يريد فخرج بأمر ربه أي بمشيئته ذلك له ويعبر عن المشيئة ب «الأمر»، إذ هي أحد الأمور، وهذا كما تقول فعلت ذلك عن أمرك أي بجدك وبحسب مرادك، وقال ابن عباس في قصص هذه الآية : كان إبليس من أشرف صنف، وكان له سلطان السماء وسلطان الأرض، فلما عصى صارت حاله إلى ما تسمعون، وقال بعض العلماء إذا كانت خطيئة المرء من الخطأ فلترجه، كآدم، وإذا كانت من الكبر، فلا ترجه، كإبليس، ثم وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله أَفَتَتَّخِذُونَهُ يريد أفتتخذون إبليس، وقوله وَذُرِّيَّتَهُ ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين الذين يأمرون بالمنكر ويحملون على الأباطيل، وذكر الطبري أن مجاهدا قال : ذرية إبليس الشيطان، وكان يعدهم : زلنبور صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق، وتبن صاحب المصائب، والأعور صاحب الربا، ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس، ولا يجدون لها أصلا، وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم اللّه بصره من المتاع ما لم يرفع.
قال القاضي أبو محمد : وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح فلذلك اختصرته، وقد طول النقاش في هذا المعنى، وجلب حكايات تبعد من الصحة، فتركتها إيجازا، ولم يمر بي في هذا صحيح، إلا ما في كتاب مسلم من أن للوضوء والوسوسة شيطانا يسمى خنزت، وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى الولهان واللّه العليم بتفاصيل هذه الأمور لا رب غيره، وقوله وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ أي أعداء، فهو اسم جنس، وقوله بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي بدل ولاية للّه عز وجل بولاية إبليس وذريته، وذلك هو التعوض من الجن بالباطل، وهذا هو نفس الظلم، لأنه وضع الشيء في غير موضعه.