المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٢٠١
مشهور، ذكره ابن إسحاق في السير وغيره، مضمنة أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا يا محمد إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجعوا في باب الاحتجاج عليه فقالوا له ما بالك وأنت رسول اللّه تأكل الطعام وتقف بالأسواق وتريد التماس الرزق، أي إن من كان رسول اللّه مستغن عن جميع ذلك، ثم قالوا له سل ربك أن ينزل معك ملكا ينذر معك أو يلقي إليك كنزا تنفق منه، أو يرد لك جبال مكة ذهبا أو تزال الجبال ويكون مكانها جنات تطرد فيها المياه، وأشاعوا هذه المحاجة فنزلت الآية وكتبت اللام مفردة من قولهم «ما ل» هذا إما لأن على المصحف قطع لفظه فاتبعه الكاتب، وإما لأنهم رأوا أن حروف الجر بابها الانفصال نحو «في ومن وعلى وعن».
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يأكل منها» بالياء، وقرأ حمزة والكسائي «نأكل منها» بالنون وهي قراءة ابن وثاب وابن مصرف وسليمان بن مهران، ثم أخبر تعالى عنهم وهم الظَّالِمُونَ الذين أشير إليهم أنهم قالوا حين يئسوا من محمد صلى اللّه عليه وسلم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي قد سحر فهو لا يرى مراشده، ويحتمل مَسْحُوراً أن يكون من السحر وهي الرؤية فكأنهم ذهبوا إلى تحقيره، أي رجلا مثلكم في الخلقة، ذكره مكي وغيره، ثم نبّهه اللّه تعالى مسليا عن مقالتهم فقال انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بالمسحور والكاهن والساحر وغيره فَضَلُّوا أي أخطئوا الطريق فلا يجدون سبيل هداية ولا يطيقونه لالتباسهم بضده من الضلال، وقوله تعالى : تَبارَكَ الَّذِي الآية رجوع بأمور محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى اللّه تعالى، أي هذه جهتك لا هؤلاء الضالون في أمرك، والإشارة في ذلك قال مجاهد هي إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا، وقال ابن عباس هي إلى أكله الطعام ومشيه في الأسواق، وقال الطبري والأول أظهر.
قال القاضي أبو محمد : لأن هذا التأويل الثاني يوهم أن الجنّات والقصور التي في هذه الآية هي في الدنيا وهذا تأويل الثعلبي وغيره، ويرد ذلك قوله تعالى بعد ذلك بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ [الفرقان : ١١] والكل محتمل، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحفص ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي «و يجعل» بالجزم على العطف على موضع الجواب في قوله جَعَلَ لأن التقدير «تبارك الذي إن يشأ يجعل». وقرأ أبو بكر عن عاصم أيضا وابن كثير وابن عامر «و يجعل» بالرفع والاستئناف، وهي قراءة مجاهد، ووجوه العطف على المعنى في قوله جَعَلَ لأن جواب الشرط هو موضع الاستئناف، ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط، وقرأ عبد اللّه بن موسى وطلحة بن سليمان «و يجعل» بالنصب وهو على تقدير «أن» في صدر الكلام، قال أبو الفتح هي على جواب الجزاء بالواو وهي قراءة ضعيفة، وأدغم الأعرج وَيَجْعَلْ لَكَ وروي ذلك عن ابن محيصن، و«القصور» البيوت المبنية بالجدرات قاله مجاهد وغيره، وكانت العرب تسمي ما كان من الشعر والصوف والقصب بيتا، وتسمي ما كان بالجدرات قصرا لأنه قصر عن الداخلين والمستأذنين.
قوله عز وجل :
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١١ الى ١٤]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)