المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٢٥٢
بالآتي بها، وقوله مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير برص ولا علة وإنما هي آية تجيء وتذهب، وقوله فِي تِسْعِ آياتٍ، متصل بقوله أَلْقِ وَأَدْخِلْ، وفيه اقتضاب وحذف تقديره نمهد ونيسر ذلك لك في جملة تسع آيات، وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والحجر، وفي هذين الأخيرين اختلاف والمعنى تجيء بهن إلى فرعون وقومه.
قوله عز وجل :
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٣ الى ١٤]
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
الضمير في قوله جاءَتْهُمْ لفرعون وقومه، ومُبْصِرَةً معناه معها الإبصار والوضوح، وهذا على نحو قولهم : نهار صائم وليل قائم ونائم، وقرأ قتادة وعلي بن الحسين «مبصرة» بفتح الميم والصاد، وظاهر قوله تعالى : وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ حصول الكفر عنادا وهي مسألة قولين هل يجوز أن يقع أم لا؟ فجوزت ذلك فرقة وقالت يجوز أن يكون الرجل عارفا إلا أنه يجحد عنادا ويموت على معرفته وجحوده فهو بذلك في حكم الكافر المخلد، قالوا وهذا حكم إبليس وحكم حيي بن أخطب وأخيه حسبما روي عنهما.
قال الفقيه الإمام القاضي : وإن عورض هذا المثال فرض إنسان ويجوز ذلك فيه وقالت فرقة لا يصح لوجهين :
أحدهما أن هذا لا يجوز وقوعه من عاقل، والوجه الآخر أن المعرفة تقتضي أن تحل في القلب، وذلك إيمان وحكم الكفر لا يلحقه إلا بأن يحل بالقلب كفر، ولا يصح اجتماع الضدين في محل واحد، قالوا : ويشبه في هذا العارف الجاحد أن يسلب عند الموافاة تلك المعرفة ويحل بدلها الكفر.
قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر عندي في هذه الآية وكل ما جرى مجراها أن هؤلاء الكفرة كانوا إذا نظروا في آيات موسى عليه السلام أعطتهم عقولهم أنها ليست تحت قدرة البشر وحصل لهم اليقين أنها من عند اللّه تعالى، فيغلبهم أثناء ذلك الحسد ويتمسكون بالظنون في أنه سحر وغير ذلك مما يختلج في الظن بحسب كل آية، ويلجون في عماهم فيضطرب ذلك اليقين ويدفعونه في كل حيلة من التحيل لربوبية فرعون وغير ذلك، حتى يستلب ذلك اليقين أو يدوم كذلك مضطربا، وحكمه حكم المستلب في وجوب عذابهم، وظُلْماً معناه على غير استحقاق للجحد، و«العلو» في الأرض أعظم آفة على طالبه. قال اللّه تعالى : تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً [القصص : ٨٣]. ثم عجبه تعالى من عقاب الْمُفْسِدِينَ قوم فرعون وسوء منقلبهم حين كذبوا موسى وفي هذا تمثيل لكفار قريش إذ كانوا مفسدين مستعلين، وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش «ظلما وعليا»، وحكى أبو عمرو الداني عنهم وعن أبان بن تغلب أنهم كسروا العين من «عليا».