المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٣٧٨
«قولوا : اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا»، فقالها المسلمون في تلك الضيقات. ثم أثنى اللّه على رجال من المؤمنين عاهدوا اللّه تعالى على الاستقامة التامة فوفوا وقضوا نحبهم، أي نذرهم وعهدهم، و«النحب» في كلام العرب النذر، والشيء الذي يلتزمه الإنسان، ويعتقد الوفاء به، ومنه قول الشاعر :«قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر»، المعنى أنه التزم الصبر إلى موت أو فتح فمات ومن ذلك قول جرير :[الطويل ]
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا عشية بسطام جرين على نحب
أي على أمر عظيم التزم القيام، كأنه خطر عظيم وشبهه، وقد يسمى الموت نحبا، وبه فسر ابن عباس هذه الآية، وقال الحسن قَضى نَحْبَهُ مات على عهد، ويقال للذي جاهد في أمر حتى مات قضى فيه نحبه، ويقال لمن مات قضى فلان نحبه، وهذا تجوز كأن الموت أمر لا بد للإنسان أن يقع به فسمي نحبا، لذلك فممن سمى المفسرون أنه أشير إليه بذلك أنس بن النضر عم أنس بن مالك، وذلك أنه غاب عن بدر فساءه ذلك وقال : لئن شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مشهدا ليرين اللّه ما أصنع، فلما كانت أحد أبلى بلاء حسنا حتى قتل ووجد فيه نيف على ثمانين جرحا، فقالت فرقة : إن هذه الإشارة هي إلى أنس بن النضر ونظرائه ممن استشهد في ذات اللّه تعالى، وقال مقاتل والكلبي الرجال الذين صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة، وقالت فرقة : الموصوفون بقضاء النحب هم جماعة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفوا بعهود الإسلام على التمام، فالشهداء منهم، والعشرة الذين شهد لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالجنة منهم، إلى من حصل في هذه المرتبة ممن لم ينص عليه، ويصحح هذه المقالة ما روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان على المنبر فقال له أعرابي : يا رسول اللّه من الذي قضى نحبه؟ فسكت النبي صلى اللّه عليه وسلم ساعة، ثم دخل طلحة بن عبيد اللّه على باب المسجد وعليه ثوبان أخضران فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أين السائل؟ فقال : ها أنا ذا يا رسول اللّه، قال : هذا ممن قضى نحبه.
قال القاضي أبو محمد : فهذا أدل دليل على أن النحب ليس من شروطه الموت، وقال معاوية بن أبي سفيان : إني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :«طلحة ممن قضى نحبه»، وروت هذا المعنى عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يريد ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح وهو بسبيل ذلك وَما بَدَّلُوا وما غيروا، ثم أكد بالمصدر، وقرأ ابن عباس على منبر البصرة «و منهم من بدل تبديلا»، رواه عنه أبو نصرة، وروى عنه عمرو بن دينار «و منهم من ينتظر وآخرون بدلوا تبديلا»، واللام في قوله تعالى : لِيَجْزِيَ لام الصيرورة والعاقبة، ويحتمل أن تكون لام كي، وتعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم والتوبة موازية لتلك الإدامة وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان : إقامة على نفاق، أو توبة منه، وعنهما ثمرتان تعذيب، أو رحمة، فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدة من هاتين، وواحدة من هاتين، ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ويدلك على أن معنى قوله «ليعذب» ليديم على النفاق قوله إِنْ شاءَ ومعادلته بالتوبة وبحرف أَوْ ولا يجوز أحد أن إِنْ شاءَ يصح في تعذيب منافق على نفاقه بل قد حتم اللّه على نفسه بتعذيبه.