المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٥٣٠
خلقت شكسا للأعادي مشكسا أكوي السريين وأحسم النسا
من شاء من حر الجحيم استقبسا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو :«سالما»، على اسم الفاعل بمعنى سلم من الشركة فيه. قال أبو عمرو معناه : خالصا، وهذه بالألف قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والجحدري والزهري والحسن بخلاف عنه. وقرأ الباقون :«سلما» بفتح السين واللام، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وأبي رجاء وطلحة والحسن بخلاف. وقرأ سعيد بن جبير :«سلما»، بكسر السين وسكون اللام، وهما مصدران وصف بهما الرجل بمعنى خالصة وأمر قد سلم له.
ثم وقف الكفار بقوله : هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا ونصب مَثَلًا على التمييز، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد جاوبوا، فقال : الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم. ثم قال تعالى : بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى، تقديره : الحمد للّه على ظهور الحجة، وأن الأمر ليس كما يقولون بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. و«أكثر» في هذه الآية على بابها، لأنا وجدنا الأقل علم أمر التوحيد وتكلم به ورفض الأصنام كورقة وزيد وقس. ثم ابتدأ القول معهم غرضا آخر من الوعيد يوم القيامة والخصوم ومن التحذير من حال الكذبة على اللّه المكذبين بالصدق، فقدم تعالى لذلك توطئة مضمنها وعظ النفوس وتهيئتها لقبول الكلام وحذف التوعد، وهذا كما تريد أن تنهى إنسانا عن معاصيه أو تأمره بخير فتفتتح كلامك بأن تقول : كلنا يفنى ولا بد للجميع من الموت، أو كل من عليها فان، ونحو هذا مما توقن به نفس الذي تحاور، ثم بعد هذا تورد قولك، فأخبر تعالى أن الجميع «ميت». وهذه قراءة الجمهور، وقرأها «مائت» و«مايتون» بألف ابن الزبير وابن محيصن وابن أبي إسحاق واليماني وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة. والضمير في إِنَّهُمْ لجميع العالم، دخل رجل على صلة بن أشيم فنعى إليه أخاه، وبين يدي صلة طعام فقال صلة للرجل :
ادن فكل، فإن أخي قد نعي إليّ منذ زمان، قال اللّه تعالى : إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ والضمير في إِنَّكُمْ قيل هو عام فيختصم يوم القيامة المؤمنون والكافرون فيما كان من ظلم الكافرين لهم في كل موطن ظلموا فيه، ومن هذا قول علي بن أبي طالب : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الرحمن، فيختصم علي وحمزة وعبيدة بن الحارث مع عتبة وشيبة والوليد، ويختصم أيضا المؤمنون بعضهم مع بعض في ظلاماتهم، قاله أبو العالية وغيره. وقال الزبير بن العوام للنبي عليه السلام : أيكتب علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال نعم، حتى يؤدى إلى ذي كل حق حقه. وقد قال عبد اللّه بن عمر لما نزلت هذه الآية : كيف نختصم ونحن أخوان؟ فلما قتل عثمان وضرب بعضنا وجوه بعض بالسيوف، قلنا هذا الخصام الذي وعدنا ربنا. ويختصم أيضا على ما روي : الروح مع الجسد، في أن يذنب كل واحد منهما صاحبه ويجعل المعصية في حيزه، فيحكم اللّه تعالى بشركتهما في ذلك.
قال القاضي أبو محمد : ومعنى الآية عندي أن اللّه تعالى توعدهم بأنهم سيخاصمون يوم القيامة في معنى ردهم في معنى الشريعة وتكذيبهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم.


الصفحة التالية
Icon