المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٧٦
ما يشبه الكسر وهو إهلاكهم وأوقع هذه الأمور على «القرية» والمراد أهلها وهذا مهيع كثير، ومنه ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ [الأنبياء : ٦] وغيره وقوله تعالى : وَأَنْشَأْنا أي خلقنا وبثثنا أمة أخرى غير المهلكة، وقوله تعالى : فَلَمَّا أَحَسُّوا وصف عن قرية من القرى المجملة أولا قيل كانت باليمن تسمى حصورا بعث اللّه تعالى إلى أهلها رسولا فقتلوه، فأرسل اللّه تعالى بخت نصر صاحب بني إسرائيل فهزموا جيشه مرتين، فنهض في الثالثة بنفسه فلما مزقهم وأخذ القتل فيهم ركضوا هاربين، ويحتمل أن لا يريد بالآية قرية بعينها وأنه واصف حال كل قرية من القرى المعذبة وأن أهل كل قرية كانوا إذا أحسوا العذاب من أي نوع كان أخذوا في الفرار. وأَحَسُّوا باشروه بالحواس، و«الركض» تحريك القدم على الصفة المعهودة، فالفار والجاري بالجملة راكض إما دابة وإما الأرض تشبيها بالدابة.
قوله عز وجل :
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٣ الى ١٦]
لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦)
يحتمل قوله تعالى : لا تَرْكُضُوا إلى آخر الآية أن يكون من قول رجال بخت نصر على الرواية المتقدمة فالمعنى على هذا أنهم خدعوهم واستهزؤوا بهم بأن قالوا للهاربين منهم لا تفروا وَارْجِعُوا إلى مواضعكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ صلحا أو جزية أو أمرا يتفق عليه، فلما انصرفوا أمر بخت نصر أن ينادى فيهم يا لثارات النبي المقتول فقتلوا بالسيف عن آخرهم ع، هذا كله مروي، ويحتمل أن يكون لا تَرْكُضُوا إلى آخر الآية من كلام ملائكة العذاب، على التأويل الآخر أن الآيات وصف قصة كل قرية وأنه لم يرد تعيين حصورا ولا غيرها، فالمعنى على هذا أن أهل هذه القرى كانوا باغترارهم يرون أنهم من اللّه تعالى بمكان وأنه لو جاءهم عذاب أو أمر لم ينزل بهم حتى يخاصموا أو يسألوا عن وجع تكذيبهم لنبيهم فيحتجون هم عند ذلك بحجج تنفعهم في ظنهم، فلما نزل العذاب دون هذا الذي أملوه وركضوا فارين نادتهم الملائكة على وجه الهزء بهم لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ كما كنتم تطمعون بسفه آرائكم، ثم يكون قوله حَصِيداً أي بالعذاب تركضوا كالحصيد، و«الإتراف» التنعيم، ودَعْواهُمْ معناه دعاؤهم وكلامهم أي لم ينطقوا بغير التأسف، والحصيد يشبه بحصيد الزرع بالمنجل الذي ردهم الهلاك كذلك، وخامِدِينَ أي موتى دون أزواج مشبهين بالنار إذا طفيت، ولما فرغ وصف هذا الحال وضع اللّه تعالى السامعين بقوله وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي ظن هؤلاء الذين نزل بهم ما نزل وكما تظنون أنتم أيها الكفرة الآن ففي الآية وعيد بهذا الوجه والمعنى إنما خلقنا هذا كله ليعتبر به وينظر فيه ويؤمن باللّه بحسبه، قال بعض الناس تُسْئَلُونَ معناه تفهمون وتفقهون.
قال القاضي أبو محمد : وهذا تفسير لا يعطيه اللفظ، وقالت فرقة تُسْئَلُونَ معناه شيئا من أموالكم وعرض دنياكم على وجه الهزء.