المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٩١
فتخاصم إلى داود عليه السلام رجل له زرع وقيل كرم ع والْحَرْثِ يقال فيهما وهو في الزرع أبعد عن الاستعارة، دخلت حرثه غنم رجل آخر فأفسدت عليه، فرأى داود عليه السلام أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فقالت فرقة على أن يبقى كرمه بيده، وقالت فرقة بل دفع الغنم إلى صاحب الحرث، والحرث إلى صاحب الغنم ع فيشبه على هذا القول الواحد أنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت، وعلى القول الثاني رآها تقاوم الحرث وغلته ع ولا يظن بداود عليه السلام إلا أن حكمه بنظر متوجه فلما خرج الخصمان على سليمان عليه السلام تشكى له صاحب الغنم فجاء سليمان إلى داود فقال يا نبي اللّه إنك حكمت بكذا وإني رأيت ما هو أوفق بالجميع، قال وما هو، قال أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل وغير ذلك فإذا كمل الحرث وعاد إلى حاله صرف كل واحد مال صاحبه فرجعت الغنم إلى ربها، والحرث إلى ربه، فقال داود. وفقت يا بني وقضى بينهما بذلك.
ع ولا شك أن سليمان رأى أن ما يتحمله صاحب الغنم من فقد مرافق غنمه تلك المدة ومن مؤونة إصلاح الحرث يوازي ما فسد في الحرث وفضل حكمه حكم أبيه في أنه أحرز أن يبقى ملك كل واحد منهما على متاعه وتبقى نفسه بذلك طيبة ع وذهبت فرقة إلى أن هذه النازلة لم يكن الحكم فيها باجتهاد وإنما حكم داود بوحي وحكم سليمان بوحي نسخ اللّه تعالى به حكم داود وجعلت فرقة ومنها ابن فورك، قوله تعالى : فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أي فهمناه القضاء الفاصل الناسخ الذي أراد اللّه تعالى أن يستقر في النازلة ع وتحتاج هذه الفرقة في هذا اللفظة إلى هذا التعب ويبقى لها المعنى بعد قلقا، وقال جمهور الأمة إن حكمهما كان باجتهاد، وأدخل العلماء هذه الآية في كتبهم على مسألة اجتهاد العالمين فينبغي أن نذكر هنا تلخيص مسألة الاجتهاد، اختلف أهل السنة في العالمين فما زاد يفتيان من الفروع والأحكام في المسألة فيختلفان، فقالت فرقة الحق في مسائل الفروع في طرف واحد عند اللّه تعالى وقد نصب على ذلك أدلة وحمل المجتهدين على البحث عنها والنظر فيها، فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق وله أجران أجر في الاجتهاد وأجر في الإصابة، ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده، مخطئ في أن لم يصب العين فله أجر وهو غير معذور، وهذا هو الذي قال النبي صلى اللّه عليه وسلم فيه «إذا اجتهد العالم فأخطأ فله أجر» وكذلك أيضا يدخل في قوله عليه السلام «إذا اجتهد العالم فأخطأ»، العالم يجتهد فيخالف نصا يمر به كقول سعيد بن المسيب في النكاح إنه العقد في مسألة التحليل للزوج المطلق ونحوه وهذا يجمع بين قوله «إذا اجتهد العالم فأخطأ» وبين قوله «كل مجتهد مصيب» أي أخطأ العين المطلوب وأصاب في اجتهاده، ورأت هذه الفرقة أن العالم المخطئ لا إثم عليه في خطئه وإن كان غير معذور، وقالت فرقة الحق في طرف واحد، ولم ينصب اللّه تعالى عليه دليلا،
بل وكل الأمر إلى نظر المجتهدين فمن أصابه، أصابه ومن أخطأ فهو معذور ومأجور، ولم يتعبد بإصابة العين بل تعبد بالاجتهاد فقط، وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه الحق في مسائل الفروع في الطرفين وكل مجتهد مصيب والمطلوب إنما هو الأفضل في ظنه والدليل على هذه المقالة ممن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض ولم ير أحد منهم أن يقع الانحمال على قوله دون مخالف قوله، ومنه رد مالك رحمه اللّه للمنصور عن حمل الناس على الموطأ إلى كثير من هذا


الصفحة التالية
Icon