المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ١٤٨
وقوله تعالى : فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً مصدر مؤكد لنفسه، لأن ما قبله هو بمعناه، إن التحبيب والتزيين هو نفس الفضل، وقد يجيء المصدر مؤكدا لما قبله إذا لم يكن هو نفس ما قبله، كقولك جاءني زيد حقا ونحوه وكان قتادة رحمه اللّه يقول : قد قال اللّه تعالى لأصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم :
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ، وأنتم واللّه أسخف الناس رأيا، وأطيش أحلاما، فليتهم رجل نفسه، ولينتصح كتاب اللّه تعالى.
قوله عز وجل :
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
طائِفَتانِ مرفوع بإضمار فعل. والطائفة : الجماعة. وقد تقع على الواحد، واحتج لذلك بقوله تعالى : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة : ١٢٢]. ورأى بعض الناس أن يشهد حدا لزناة رجل واحد. فهذه الآية الحكم فيها في الأفراد وفي الجماعات واحد.
واختلف الناس في سبب هذه الآية. فقال أنس بن مالك والجمهور سببها : ما وقع بين المسلمين والمتحزبين منهم مع عبد اللّه بن أبي ابن سلول حين مر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه. فقال عبد اللّه بن أبيّ لما غشيه حمار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا تغبروا علينا ولقد آذانا نتن حمارك. فرد عليه عبد اللّه بن رواحة الحديث بطوله. فتلاحى الناس حتى وقع بينهم ضرب بالجريد، ويروى بالحديد. وقال أبو مالك والحسن سببها : أن فرقتين من الأنصار وقع بينهما قتال. فأصلحه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد جهد ونزلت الآية في ذلك وقال السدي : كانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر ولها زوج من غيرهم. فوقع بينهما شيء أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه. فوقع قتال نزلت الآية بسببه.
و: بَغَتْ معناه : طلبت العلو بغير الحق، ومدافعة الفئة الباغية متوجه في كل حال وأما التهيؤ لقتالها فمع الولاة. وقيل لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : أمشركون أهل صفين والجمل؟ قال : لا. من الشرك فروا. قيل أفمنافقون؟ قال : لا. لأن المنافقين لا يذكرون اللّه إلا قليلا. قيل فما حالهم؟ قال :
إخواننا بغوا علينا. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : حكم اللّه في الفئة الباغية أن لا يجهز على جريح. ولا يطلب هارب. ولا يقتل أسير. و: تَفِيءَ معناه : ترجع. والإقساط : الحكم بالعدل.
وقوله تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ يريد إخوة الدين. وقرأ الجمهور من القراء :«بين أخويكم» وذلك رعاية لحال أقل عدد يقع فيه القتال والتشاجر والجماعة متى فصل الإصلاح فإنما هو بين رجلين رجلين. وقرأ ابن عامر والحسن بخلاف عنه :«بين إخوتكم».