المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ٣٤٩
يوسم هذا الإنسان على أنفه بسمة حقيقة، بل هذه عبارة عن فعل يشبه الوسم على الأنف. واختلف الناس في ذلك الفعل، فقال ابن عباس : هو الضرب بالسيف أي يضرب في وجهه، وعلى أنفه فيجيء ذلك الوسم على الأنف، وحل ذلك به يوم بدر. وقال محمد بن يزيد المبرد : ذلك في عذاب الآخرة في جهنم، وهو تعذيب بنار على أنوفهم. وقال آخرون ذلك في يوم القيامة، أي يوسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره. وقال قتادة وغيره معناه : سنفعل به في الدنيا من الذم له والمقت والإشهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتا بينا، وهذا المعنى كما تقول : سأطوقك طوق الحمامة، أي أثبت لك الأمر بينا فيك، ونحو هذا أراد جرير بقوله :[الكامل ] لما وضعت على الفرزدق ميسمي وفي الوسم على الأنف تشويه، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جدا. وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأحدوثة رأيت أنهم قد وسموا على الخراطيم.
وقوله تعالى : إِنَّا بَلَوْناهُمْ يريد قريشا، أي امتحناهم، وأَصْحابَ الْجَنَّةِ فيما ذكر قوم إخوة كان لأبيهم جنة وحرث مغل فكان يمسك منه قوته، ويتصدق على المساكين بباقيه، وقيل بل كان يحمل المساكين معه في وقت حصاده وجذه، فيجذيهم منه فمات الشيخ، فقال ولده : نحن جماعة وفعل أبينا كان خطأ، فلنذهب إلى جنتنا ولا يدخلها علينا مسكين، ولا نعطي منها شيئا، قال : فبيتوا أمرهم وعزمهم على هذا، فبعث اللّه عليها بالليل طائفا من نار أو غير ذلك، فاحترقت، فقيل : أصبحت سوداء، وقيل : بيضاء كالزرع اليابس المحصود، فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها فحسبوا أنهم قد أخطؤوا الطريق، ثم تبينوها فعلموا أن اللّه تعالى أصابهم فيها، فتابوا حينئذ وأنابوا وكانوا مؤمنين من أهل الكتاب، فشبه اللّه تعالى قريشا بهم، في أنهم امتحنهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وهداه كما امتحن أولئك بفعل أبيهم وبأوامر شرعهم، فكما حل بأولئك العقاب في جنتهم كذلك يحل بهؤلاء في جميع دنياهم وفي حياتهم، ثم التوبة معرضة لمن بقي منهم كما تاب أولئك. وقال كثير من المفسرين : السنون السبع التي أصابت قريشا هي بمثابة ما أصاب أولئك في جنتهم. وقوله تعالى : لَيَصْرِمُنَّها أي ليجدنها، وصرام النخل : جد ثمره وكذلك في كل شجرة، ومُصْبِحِينَ معناه : إذا دخلوا في الصباح، وقوله تعالى : وَلا يَسْتَثْنُونَ ولا يتوقفون في ذلك، أو ولا ينثنون عن رأي منع المساكين، وقال مجاهد معناه : لا يقولون إن شاء اللّه، بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره، والطائف : الأمر الذي يأتي بالليل، ذكر هذا التخصيص الفراء، ويرده قوله تعالى : إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ [الأعراف : ٢٠١]، والصريم : قال الفراء ومنذر وجماعة : أراد به الليل من حيث اسودت جنتهم.
وقال آخرون : أراد به الصبح من حيث ابيضت كالحصيد، قاله سفيان الثوري : والصريم، يقال لليل والنهار من حيث كل واحد منهما ينصرم من صاحبه، وقال ابن عباس : الصريم، الرماد الأسود بلغة جذيمة، وقال ابن عباس أيضا وغيره : الصريم، رملة باليمن معروفة لا تنبت فشبه جنتهم بها.
قوله عز وجل :
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٢١ الى ٢٩]
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥)
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩)