المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ٤٣٨
إِلى رَبِّهِ مَآباً
[النبأ : ٣٩] وقوله تعالى : فِي صُحُفٍ يتعلق بقوله : إِنَّها تَذْكِرَةٌ، وهذا يؤيد أن التذكرة يراد بها جميع القرآن، وقال بعض المتأولين : الصحف هنا اللوح المحفوظ، وقيل : صحف الأنبياء المنزلة، وقيل : مصاحف المسلمين، واختلف الناس في «السفرة»، فقال ابن عباس : هم الملائكة لأنهم كتبة يقال : سفرت أي كتبت، ومنه السفر، وقال ابن عباس أيضا : الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين اللّه تعالى وبين أنبيائه، وقال قتادة : هم القراء وواحد السفرة سافر، وقال وهب بن منبه : هم الصحابة لأنهم بعضهم يسفر إلى بعض في الخبر والتعلم، والقول الأول أرجح، ومن اللفظة قول الشاعر :[الوافر].
وما أدع السفارة بين قومي وما أسعى بغش إن مشيت
و«الصحف» على هذا صحف عند الملائكة أو اللوح، وعلى القول الآخر هي المصاحف، وقوله تعالى : قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ دعاء على اسم الجنس وهو عموم يراد به الخصوص، والمعنى : قتل الإنسان الكافر، ومعنى قُتِلَ أي هو أهل أن يدعى عليه بهذا، وقال مجاهد : قُتِلَ بمعنى لعن، وهذا تحكم، وقوله تعالى : ما أَكْفَرَهُ يحتمل معنى التعجب، ويحتمل معنى الاستفهام توقيفا أي أيّ شيء أَكْفَرَهُ أي جعله كافرا، وقيل إن هذه الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب، وذلك أنه غاضب أباه فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام، فبعث عتبة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال : إني كافر برب النجم إذا هوى، فيروى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :«اللهم ابعث عليه كلبك حتى يأكله»، ويروى أنه قال :«ما يخاف أن يرسل اللّه عليك كلبه»، ثم إن عتبة خرج في سفرة فجاء الأسد فأكله بين الرفقة.
قوله عز وجل :
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١٨ الى ٣٢]
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧)
وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)
قوله تعالى : مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ استفهام على معنى التقرير على تفاهة الشيء الذي خلق الإنسان منه، وهي عبارة تصلح للتحقير والتعظيم والقرينة تبين الغرض، وهذا نظير قوله : لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ [المرسلات : ١٣] واللفظ المشار إليه ماء الرجل وماء المرأة، وقرأ جمهور الناس :«فقدّره» بشد الدال، وقرأ بعض القراء :«فقدره» بتخفيفها، والمعنى جعله بقدر واحد معلوم من الأعضاء والخلق والأجل وغير ذلك من أنحائه حسب إرادته تعالى في إنسان إنسان، واختلف المتأولون في معنى قوله : ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ فقال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي : هي سبيل الخروج من بطن المرأة ورحمها، وقال الحسن ما معناه : إن السَّبِيلَ هي سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان، وتيسره له هو هبة العقل، وقال