المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ٥١١
شهادتهما بما عمل عليها من عمل صالح أو فاسد، فالحديث على هذا حقيقة، والكلام بإدراك وحياة يخلقها اللّه تعالى، وأضاف الأخبار إليها من حيث وعتها وحصلتها، وانتزع بعض العلماء من قوله تعالى :
تُحَدِّثُ أَخْبارَها أن قول المحدث : حدثنا وأخبرنا سواء، وقال الطبري وقوم : التحديث في الآية مجاز، والمعنى أن ما تفعله بأمر اللّه من إخراج أثقالها وتفتت أجزائها وسائر أحوالها هو بمنزلة التحديث بأنبائها وأخبارها، ويؤيد القول الأول قول النبي صلى اللّه عليه وسلم :«فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة»، وقرأ عبد اللّه بن مسعود :«تنبئ أخبارها»، وقرأ سعيد بن جبير :«تبين» وقوله تعالى : بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها الباء باء السبب، وقال ابن عباس وابن زيد والقرظي المعنى : أَوْحى لَها، وهذا الوحي على هذا التأويل يحتمل أن يكون وحي إلهام، ويحتمل أن يكون وحيا برسول من الملائكة، وقد قال الشاعر :
أوحى لها القرار فاستقرت وشدها بالراسيات الثبت
والوحي في كلام العرب إلقاء المعنى إلقاء خفيا، وقال بعض المتأولين : أَوْحى لَها معناه :
أَوْحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل في الأرض تلك الأفعال، وقوله تعالى : لَها بمعنى : من أجلها ومن حيث الأفعال فيها فهي لها، وقوله تعالى : يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً بمعنى : يتصرفون موضع وردهم مختلفي الأحوال وواحد الأشتات : شت، فقال جمهور الناس :
الورد، هو الكون في الأرض بالموت والدفن، والصدر : هو القيام للبعث، وأَشْتاتاً : معناه : قوم مؤمنون وقوم كافرون، وقوم عصاة مؤمنون، والكل سائر إلى العرض ليرى عمله، ويقف عليه، وقال النقاش : الورد هو ورد المحشر، والصدر أَشْتاتاً : هو صدر قوم إلى الجنة، وقوم إلى النار، وقوله تعالى : لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ إما أن يكون معناه جزاء أعمالهم يراه أهل الجنة من نعيم وأهل النار بالعذاب، وإما أن يكون قوله تعالى : لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ متعلقا بقوله : بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها، ويكون قوله : يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً اعتراضا بين أثناء الكلام، وقرأ جمهور الناس :«ليروا»، بضم الياء على بناء الفاعل للمفعول، وقرأ الحسن والأعرج وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة :«ليروا» بفتح الياء على بنائه للفاعل، ثم أخبر تعالى أنه من عمل عملا رآه قليلا كان أو كثيرا، فخرجت العبارة عن ذلك بمثال التقليل، وهذا هو الذي يسميه أهل الكلام مفهوم الخطاب، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد، ومنه قوله تعالى : فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء : ٢٣]، وهذا كثير، وقال ابن عباس وبعض المفسرين : رؤية هذه الأعمال هي في الآخرة، وذلك لازم من لفظ السورة وسردها، فيرى الخير كله من كان مؤمنا، والكافر لا يرى في الآخرة خيرا، لأن خيره قد عجل له في الدنيا، وكذلك المؤمن أيضا تعجل له سيئاته الصغار في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها فيجيء من مجموع هذا أن من عمل من المؤمنين مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير أو شر رآه، ويخرج من ذلك أن لا يرى الكافر خيرا في
الآخرة. ومنه حديث عائشة رضي اللّه عنها، قالت : قلت يا رسول اللّه : أرأيت ما كان عبد اللّه بن جدعان يفعله من البر وصلة الرحم وإطعام الطعام، أله في ذلك أجر؟ قال :«لا، لأنه لم يقل قط رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين». وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يسمي هذه الآية الجامعة الفادة، وقد نص على ذلك حين سئل عن الحمر الحديث، وأعطى


الصفحة التالية
Icon