معاني القرآن، ج ٢، ص : ٣٧٣
فكنى عن الشرّ وإنما ذكر الخير وحده، وذلك أن الشرّ يذكر مع الخير، وهى فى قراءة عبد اللّه (إنا جعلنا فى أيمانهم أغلالا فهى إلى الأذقان) فكفت الأيمان من ذكر الأعناق فى حرف عبد اللّه، وكفت الأعناق من الأيمان فى قراءة العامّة. والذقن أسفل اللحيين. والمقمح : الغاضّ بصره بعد رفع رأسه. ومعناه : إنا حبسناهم عن الإنفاق فى سبيل اللّه.
وقوله : فَأَغْشَيْناهُمْ [٩] أي فألبسنا أبصارهم غشاوة. ونزلت هذه الآية فى قوم أرادوا قتل النبىّ صلى اللّه عليه وسلم من بنى مخزوم، فأتوه فى مصلّاه ليلا، فأعمى اللّه أبصارهم عنه، فجعلوا يسمعون صوته بالقرآن «١» ولا يرونه. فذلك قوله (فَأَغْشَيْناهُمْ) وتقرأ (فأعشيناهم) بالعين. أغشيناهم عنه لأن العشو بالليل، إذا أمسيت وأنت لا ترى شيئا فهو العشو.
وقوله : وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا [١٢] أمّا ما قدّموا فما أسلفوا من أعمالهم. وآثارهم ما استنّ به من بعدهم. وهو/ ١٥٦ ا مثل قوله (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
«٢»وْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ).
وقوله (وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) القراء مجتمعون على نصب (كلّ) لما وقع من الفعل على راجع ذكرها. والرفع وجه جيّد قد سمعت ذلك من العرب لأنّ (كلّ) «٣» بمنزلة النكرة إذا صحبها الجحد فالعرب تقول : هل أحد ضربته، وفى (كلّ) مثل هذا التأويل، ألا ترى أن معناه : ما من شىء إلّا قد أحصيناه.
وقوله : إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ [١٤] والثالث قد كان أرسل قبل الاثنين فكذّب. وقد تراه فى التنزيل كأنه بعدهما. وإنما معنى قوله (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) : بالثالث الذي قبلهما كقولك : فعزّزنا بالأوّل. والتعزيز يقول : شدّدنا أمرهما بما علّمهما الأوّل شمعون. وكانوا أرسلوا إلى أنطاكية «٤». وهى فى قراءة عبد اللّه (فعزّزنا بالثالث) لأنه قد ذكر فى المرسلين «٥»، وإذا
(٢) الآية ١٣ سورة القيامة.
(٣) كذا. وكأنه منعها الصرف لأنه أراد الكلمة، فاجتمع فيها العلمية لأنها علم على اللفظ، والتأنيث.
(٤) هى مدينة من أعمال حلب فى سورية. [.....]
(٥) أي فى قوله تعالى فى الآية السابقة «إذ جاءها المرسلون».