تفسير الوسيط (الزحيلي)، ج ١، ص : ٤٥
و لما جاءهم النّبي صلّى اللّه عليه وسلم بكتاب مصدق ومؤيد للتوراة في أصول الدين العامة، كتوحيد اللّه، وإثبات البعث، والتصديق بالوحي والرّسل، ترك فريق من اليهود كتاب اللّه وراء ظهورهم، وهو تمثيل لتركهم وإعراضهم عنه، ولم يؤمنوا به بحق، كأنهم لا يعلمون أن من لم يؤمن بالقرآن الموافق للتوراة لا يكون مؤمنا بكل منهما.
واتبع فريق من أحبار اليهود وعلمائهم الذين نبذوا التوراة، السّحر والشّعوذة في زمن ملك سليمان، لأن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، ويضمون إليه أكاذيب، ثم يلقنونها الكهنة، فيعلّمونها الناس، ويقولون : هذا علم سليمان، وقام ملك سليمان بهذا. فردّ اللّه تعالى عليهم بأن سليمان ما فعل ذلك، وما عمل سليمان بالسّحر، ولكن الشياطين هم الذين كفروا باتّباع السّحر وتدوينه وتعليمه الناس على وجه الإضرار والإغواء، ونسبته إلى سليمان على وجه الكذب وجحد نبوته.
قال ابن إسحاق : قال بعض أحبار اليهود : ألا تعجبون من محمد، يزعم أن سليمان كان نبيّا، واللّه ما كان إلا ساحرا، فأنزل اللّه : وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ.
ويعلمونهم ما أنزل على الملكين ببلدة بابل (في العراق في أرض الكوفة) والملكان :
بشران صالحان قانتان، صاحبا هيبة ووقار يجلّهما الناس وشبّهوهما بالملائكة، وهما هاروت وماروت.
وكان هذان الرجلان الملكان يعلّمان الناس السّحر الذي كثرت فنونه الغريبة في عصرهم، وكانت معرفتهم بالسّحر بالإلهام دون معلم، وهو المقصود بالإنزال، وما ألهموا به كان من جنس السّحر، لا عينه.
وكان هذان الملكان يتبعان في تعليم السّحر طريق الإنذار والتحذير، فلا يعلّمان أحدا من الناس، حتى يقولا له : إنما نحن ابتلاء واختبار من اللّه، فلا تعمل بالسّحر وإلا كنت كافرا، وذلك حفاظا على حسن اعتقاد الناس فيهما.