تفسير الوسيط (الزحيلي)، ج ٣، ص : ٢٥٥٠
ثم تركت هذه الأقوال وأضرب عنها، عناية بأمر القيامة التي عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال، فقال اللّه تعالى : بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي بل إن القيامة موعد عذابهم الأخروي، وليس هذا العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والقهر، هو تمام ما وعدوا به من العذاب، وإنما هو مقدمة له، وعذاب القيامة أعظم وأنكى، وأشد مرارة وقسوة من عذاب الدنيا.
ونوع عذاب الآخرة : هو أن المجرمين، أي الكفار- في رأي أكثر المفسرين- في الدنيا في حيرة وبعد عن الهدى والصواب، وفي الآخرة في احتراق وتسعّر، أي في نيران مستعرة.
يوم يجرّون في النار على وجوههم للإهانة والإذلال، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا :
ذوقوا وقاسوا حرّ النار وآلامها وشدة عذابها. وهذا توعد بالسحب في جهنم. وأكثر المفسرين على أن المجرمين هنا يراد بهم الكفار، وقال قوم : المراد بالمجرمين : القدرية الذين يقولون : إن أفعال العباد ليست بقدر من اللّه تعالى.
ثم أوضح الحق تعالى أن جميع ما يحدث في الكون ومنه أفعال الناس كلهم هو مخلوق لله تعالى، فقال : إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) أي إن كل شي ء من الأشياء وكل فعل من الأفعال في الكون والحياة، خيرا أو شرا، مخلوق لله تعالى، مقدر بقدر معلوم، وفي هيئة وزمن مخصوص، وهو محكم مرتب بحكمة اللّه تعالى، وعلى وفق المكتوب في اللوح المحفوظ، ومعلوم لله في الأزل. وهذا المعنى يقتضي أن كل شي ء مخلوق، إلا ما قام الدليل العقلي على أنه ليس بمخلوق، كالقرآن وصفات اللّه تعالى.
وهذه الآية رد واضح على طائفة القدرية الذين ينكرون القدر، ويقولون : المرء يخلق أفعاله.
أخرج الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : خاصمت قريش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في القدر، فنزلت هذه الآية.


الصفحة التالية
Icon