تفسير الوسيط (الزحيلي)، ج ٣، ص : ٢٧٤٣
إنا بعثنا بعثة دعوة نوحا بن لامك عليه السّلام أول رسول أرسله اللّه إلى قومه، وقلنا له : أنذر قومك بأس اللّه وعذابه، قبل أن يجيئهم عذاب شديد الألم، وهو عذاب النار، أو الإغراق بالطوفان، فإن تابوا ورجعوا، رفع عنهم.
قال نوح : يا قومي، إني لكم منذر من عذاب اللّه ومخوف إياكم، واضح الإنذار والاعلام. ومضمون دعوتي : أني آمركم بعبادة اللّه وحده لا شريك له، وأن تؤدّوا حقوقه، وتمتثلوا أوامره، وتجتنبوا نواهيه التي توقعكم في العذاب، وتطيعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه. والتقوى : امتثال الأوامر، واجتناب المحرّمات.
وثمره التكاليف أمران : أنه تعالى يستر لكم بعض ذنوبكم، ويمدّ في أعماركم، ويؤخر موتكم إلى أمد محدد قدره اللّه لكم، إن آمنتم وأطعتم. وقوله : مِنْ ذُنُوبِكُمْ من للتبعيض، وهذا وعد كريم على الطاعة والعبادة بشيئين : دفع مضارّ الآخرة وهو غفران الذنوب، وتحقيق منافع الدنيا، وهو تأخير الأجل إلى وقت آخر. ولا يعني هذا خلافا للمعتزلة من وجود أجلين للإنسان، وإنما المراد أنه قد سبق في الأزل، أنهم إما ممن قضي له بالإيمان والتأخير، وإما ممن قضي له بالكفر والمعاجلة، بدليل قوله : إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ أي ما قدره لكم إذا جاء، وأنتم كافرون، لا يؤخر بل يقع حتما.
قال نوح بعد أن طال عمره، وتحقّق اليأس من قومه : يا ربّ إني دعوت قومي إلى ما أمرتني به، بأن أدعوهم إلى الإيمان بوجودك ووحدانيتك، دعاء متواصلا دائما في الليل والنهار، من غير تقصير، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك، فلم يزدهم دعائي إلى اللّه الذات الأقدس إلا فرارا مما دعوتهم إليه، وبعدا عنه. وقوله : لَيْلًا وَنَهاراً :
عبارة عن استمرار دعائه، وأنه لم يتوان فيه قط.
وكلما دعوتهم إلى سبب المغفرة، وهو الإيمان بالله والطاعة له، سدّوا آذانهم