الثالث قوله تعالى: ﴿وقل لهما قولاً كريماً﴾ أي: حسناً جميلاً طيباً ليناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو أن يقول يا أبتاه يا أمّاه. وسئل سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. وعن عطاء أنه قال: هو أن يتكلم معهما بشرط أن لا يرفع إليهما بصره ولا يشتد إليهما نظره وذلك أنّ هذين الفعلين ينافيان القول الكريم. فإن قيل: إبراهيم الخليل عليه السلام قال لأبيه: ﴿إني أراك وقومك في ضلال مبين﴾ مع أنه عليه السلام من أعظم الناس أدباً وحلماً وكرماً؟ أجيب: بأن حق الله تعالى مقدّم على حق الأبوين فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديماً لحق الله تعالى. والرابع قوله تعالى:
﴿واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة﴾ أي: لا من أجل الامتثال للأمر وخوف العار فقط بل من أجل الرحمة لهما بأن لا تزال تذكر نفسك بالأوامر والنواهي وبما تقدّم لهما من الإحسان إليك والمقصود المبالغة في التواضع وهذه استعارة بليغة. قال القفال: وفي تقريره وجهان:
الأوّل أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن جنس التربية فكأنه قال للولد أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك، كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
والثاني أنّ الطائر إذا أراد الطيران نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع وإذا أراد ترك الطيران خفض جناحيه ولم يرفع فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع واللين. فإن قيل: كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له؟ أجيب: بوجهين: الأوّل: أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال حاتم الجود فكما أنّ المراد هناك حاتم الجواد فكذا هنا المراد اخفض لهما جناحك الذليل، الثاني: أنّ مدار الاستعارة على الخيلان فهنا تخيل للذل جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً وللقرة زماماً في قوله:
*وغداة ريح قد كشفت وقرة
... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها


الصفحة التالية
Icon