﴿قال﴾ مجيباً لها بما معناه: إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً مؤكداً لأجل استعاذتها ﴿إنما أنا رسول ربك﴾ أي: الذي عذت به فأنا لست متهماً بل متصف بما ذكرت وزيادة الرسالة وعبر باسم الرب المقتضى للإحسان لطفاً بها، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده وقوله: ﴿ليهب لك﴾ قرأ ورش وأبو عمرو وقالون بخلاف عنه بالياء أي: ليهب اللّه تعالى لك، وقرأ الباقون بالهمز أي: لأهب أنا لك وفي مجازه وجهان، الأول: أن الهبة لما جرت على يده بأن كان هو الذي ينفخ في جيبها بأمر اللّه تعالى جعل نفسه كأنه هو الذي وهب لها وإضافة الفعل إلى من هو سبب مستعمل، قال اللّه تعالى في الأصنام: ﴿رب إنهن أضللن كثيراً من الناس﴾ (إبراهيم، ٣٦)، الثاني: أن جبريل عليه السلام لما بشرها بذلك كانت البشارة الصادقة جارية مجرى الهبة. ثم بيّن الموهوب بقوله: ﴿غلاماً﴾ أي: ولداً ذكراً في غاية القوة والرجولية ثم وصفه بقوله: ﴿زكياً﴾ أي: نبياً طاهراً من كل ما يدنس البشر نامياً على الخير والبركة
﴿قالت﴾ مريم ﴿أنّى﴾ أي: من أين وكيف ﴿يكون لي غلام﴾ ألده ﴿ولم يمسسني بشر﴾ بنكاح ﴿ولم أك بغياً﴾ أي: زانية فتعجبت مما بشرها به جبريل عليه السلام لأنها قد عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل، والعادة عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداءً وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدّ ولأنها كانت منفردة للعبادة ومن يكون كذلك لا بدّ أن يعرف قدرة اللّه تعالى على ذلك وبما تقرر سقط ما قيل، قولها ولم يمسسني بشر يدخل تحته قولها: ولم أك بغياً ولهذا اقتصر عليه في سورة آل عمران بقولها: ﴿قالت رب أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر﴾ (آل عمران، ٤٧)
(٥/١٦٣)