قال الرازي: وفي الآية لطيفة وهي أنّ الله تعالى بدل جميع أحوال إبراهيم عليه السلام في الدنيا بأضدادها لما أراد القوم تعذييه بالنار كان وحيداً فريداً فبدل الله تعالى وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته، ولما كان أوّلاً بعث إلى قومه وأقاربه الأقربين ضالين مضلين من جملتهم آزر بدل الله تعالى أقاربه بأقارب مهتدين هادين وهم ذرّيته الذين جعلت فيهم النبوّة والكتاب، وكان أولاً لا جاه له ولا مال وهما غاية المذلة الدنيوية آتاه الله تعالى من المال والجاه حتى كان له من المواشي ما علم الله تعالى عدده حتى قيل إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق الذهب وأما الجاه فصار بحيث تقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة فصار معروفاً بشيخ المرسلين بعد أن كان خاملاً حتى قال قائلهم سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم وهذا الكلام لا يقال إلا للمجهول عند الناس.
﴿وإنه في الآخرة﴾ أي: التي هي الدار ومحلّ الاستقرار ﴿لمن الصالحين﴾ أي: الذين خصصناهم بالسعادة وجعلنا لهم الحسنى وزيادة، قال ابن عباس: مثل آدم ونوح، وفي إعراب قوله تعالى:
﴿ولوطاً﴾ ما تقدّم في إعراب نصب إبراهيم ﴿إذ﴾ أي: حين ﴿قال لقومه﴾ أهل سدوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه حين فارق عمه الخليل إبراهيم عليهما السلام منكراً ما رأى من حالهم وقبيح فعالهم مؤكداً له ﴿أئنكم لتأتون الفاحشة﴾ وهي أدبار الرجال المجاوزة للحدّ في القبح فكأنها لذلك لا فاحشة غيرها ثم علل كونها فاحشة استئنافاً بقوله: ﴿ما سبقكم بها﴾ وهي حالة مبينة لعظيم جراءتهم على المنكر أي: غير مسبوقين به وأغرق في النفي بقوله: ﴿من أحد﴾ وزاد بقوله: ﴿من العالمين﴾ أي: كلهم من الأنس والجنّ أي: فضلاً عن خصوص الناس ثم كرّر الإنكار تأكيداً التجاوز قبحها الذي ينكرونه بقوله:
(٧/٣٠٣)