ولما ذكر تعالى طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله تعالى منها، ذكر سبحانه وتعالى ما أنشأه من ذلك الأكثف، وهو أصلب الأشياء بقوله تعالى: ﴿وألنا له الحديد﴾ أي: الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة، وذلك في قدرة الله تعالى يسير، وكان سبب ذلك ما روي في الأخبار أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه تقدم إليه يسأله عن داود ويقول له ما تقول في داود، وإليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيراً، فقيض الله تعالى له ملكاً في صورة آدمي فلما رآه داود تقدم إليه على عادته يسأله فقال الملك: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه فراع داود ذلك وقال: ما هي يا عبد الله؟ فقال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال: فتنبه لذلك وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال يتقوت منه ويطعم عياله، فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدروع، وإنه أول من اتخذها يقال: إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم فيأكل ويطعم منها عياله، ويتصدق منها على الفقراء والمساكين ويقال: إنه كان يعمل كل يوم درعاً يبيعه بستة آلاف درهم، فينفق منها ألفين على نفسه وعياله، ويتصدق بأربعة آلاف درهم على فقراء بني إسرائيل، وإنما اختار الله تعالى له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره ويحفظ الآدمي المكرم عند الله تعالى من القتل، فالزرّاد خير من القواس والسياف وغيرهما، لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح ربما يستعمل في قتل النفس المحرمة بخلاف الدرع قال ﷺ «كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده».
ثم ذكر سبحانه وتعالى علة الإلانة بصيغة الأمر إشارة إلى أن عمله كان لله تعالى بقوله عز من قائل:
(٩/١٥)