﴿الذي أحلنا دار المقامة﴾ أي: الإقامة إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل منها إلى منزلة القبور، ومن القبور إلى منزلة العرصة التي فيها الجمع ومنها التفريق إلى دار البقاء، إما إلى الجنة، وإما إلى النار أجارنا الله تعالى ومحبينا منها. وقولهم ﴿من فضله﴾ أي: بلا عمل منا فإن حسناتنا إنما كانت مناً منه تعالى إذ لا واجب عليه، متعلق بأحلنا، ومن إما للعلة، وإما لابتداء الغاية.
وقولهم ﴿لا يمسنا فيها﴾ أي: في وقت من الأوقات ﴿نصب ولا يمسنا فيها لغوب﴾ حال من مفعول أحلنا الأول أو الثاني، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما، وإن كان الحال من الأول أظهر، والنصب التعب والمشقة، واللغوب الفتور الناشئ عنه، وعلى هذا فيقال: إذا انتفى السبب انتفى المسبب، فإذا قيل: لم آكل فيعلم التغاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانياً فلم أشبع بخلاف العكس، ألا ترى أنه يجوز لم أشبع ولم آكل والآية الكريمة على ما تقرر من نفي السبب ثم نفي المسبب فما فائدته؟ أجيب: بأن النصب هو تعب البدن واللغوب هو تعب النفس، وقيل: اللغوب الوجع وحينئذ فالسؤال زائل، وأجاب الرازي بجواب قال ابن عادل: ليس بذاك فتركته.
ولما بين تعالى ما هم فيه من النعمة في دار السرور التي قال فيها القائل:

*علياء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء*
بين ما لأعدائهم من النقمة زيادة في سرورهم بما قاسوا في الدنيا من تكبرهم عليهم وفخارهم بقوله تعالى:
﴿والذين كفروا﴾ أي: ستروا ما دلت عليه عقولهم من شموس الآيات وأنوار الدلالات ﴿لهم نار جهنم﴾ أي: بما تجهموا أولياء الله الدعاة إليه ﴿لا يقضي﴾ أي: يحكم ﴿عليهم﴾ أي: بموت ثان ﴿فيموتوا﴾ أي: فيتسبب عن القضاء موتهم فيستريحوا كقوله تعالى ﴿ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك﴾ (الزخرف: ٧٧)
أي: بالموت فنستريح بل العذاب دائم.
تنبيه: نصب فيموتوا بإضمار أن.
(٩/١١٧)


الصفحة التالية
Icon