والثاني: أنه من باب النخيل والتمثيل، وذلك أن كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يكن يراه، والشياطين وإن كانوا موجودين غير مرئيين للعرب إلا أنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات التخيلية وذلك كقول امرئ القيس:

*أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال*
ولم ير أنيابها بل ليست موجودة البتة قال الرازي: وهذا هو الصحيح وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة عليهم السلام كمال الفضل في الصورة والسيرة فكما حسن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النسوة ﴿إن هذا إلا ملك كريم﴾ (يوسف: ٣١)
(٩/٢٢٧)
فكذلك حسن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح وتشويه الخلقة، ويؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئاً شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا: إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً حسناً قالوا: إنه ملك من الملائكة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الشياطين بأعيانهم.
﴿فإنهم﴾ أي: الكفار ﴿لآكلون منها﴾ أي: من الشجرة أو من طلعها ﴿فمالئون منها البطون﴾ والملء حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه، فإن قيل: كيف يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة طعمها؟ أجيب: بأن المضطر ربما استروح من الضرر بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم الله تعالى الجوع الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء، أو يقال: إن الزبانية يكرهونهم على الأكل من تلك الشجرة لعذابهم.
ولما ذكر الله تعالى طعامهم بتلك الشناعة والكراهية وصف شرابهم بما هو أشنع منه بقوله تعالى:


الصفحة التالية
Icon