﴿خلقكم﴾ أيها الناس المدعون إلهية غيره ﴿من نفس واحدة﴾ وهي آدم عليه السلام ﴿ثم جعل منها﴾ أي: من تلك النفس ﴿زوجها﴾ حواء وإنما بدأ منها بذكر الإنسان لأنه أقرب وأكبر دلالة وأعجب، وفيه ثلاث دلالات: خلق آدم أولاً من غير أب وأم، ثم خلق حواء من قصيراه، ثم تشعب الخلق الفائت للحصر منهما فهما آيتان إلا أن إحداهما جعلها الله تعالى عادة مستمرة والأخرى لم تجر بها العادة ولم يخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل.
تنبيه: في ثم هذه أوجه؛ أحدها: أنها على بابها من الترتيب بمهلة وذلك يروى أن الله تعالى أخرج ذرية آدم ثم ظهره كالذر ثم خلق حواء بعد ذلك بزمان. ثانيها: أنها على بابها أيضاً لكن لمدرك آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله تعالى ﴿واحدة﴾ إذ التقدير من نفس وحدت أي: انفردت ثم جعل منها زوجها. ثالثها: أنها للترتيب في الإخبار لا في الزمان الوجودي كأنه قيل: كان من أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجها.
رابعها: أنها للترتيب في الأحوال والرتب. وقال الرازي: إن ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء لبيان تأخر إحدى الكلامين عن الآخر كقول القائل: بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب وأعطيتك اليوم شيئاً ثم الذي أعطيتك أمس أكثر.
وقوله تعالى: ﴿وأنزل لكم من الأنعام﴾ عطف على خلقكم والإنزال يحتمل الحقيقة، يروى أن الله تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها، ويحتمل المجاز وله وجهان؛ أحدهما: أنها لما لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزال عليها وهو في الحقيقة يطلق على سبب السبب كقول القائل:

*إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا*
والثاني: أن قضاياه وأحكامه منزلة من السماء من حيث كتبها في اللوح المحفوظ وهو أيضاً سبب في إيجادها. وقال البغوي: معنى الإنزال ههنا الإحداث والإنشاء كقوله تعالى: ﴿أنزلنا عليكم لباساً﴾ (الأعراف: ٢٦)


الصفحة التالية
Icon