فإن قيل: كيف جمع الأكواب والأباريق وأفرد الكأس؟ أجيب: أنّ ذلك على عادة أهل الشرب فإنهم يعدون الخمر في أوان كثيرة ويشربون بكأس واحد، وفيها مباينتهم أهل الدنيا من حيث أنهم يطوفون بالأكواب والأباريق ولا تثقل عليهم بخلاف أهل الدنيا ﴿لا يصدّعون عنها﴾ أي: بسببها قال الزمخشري وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها، والصداع: هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه، والخمر تؤثر فيه؛ قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر:

*تشفى الصداع ولا يؤذيك صالتها ولا يخالطها في الرأس تدويم*
(١١/٤٠٠)
قال أبو حيان: هذه صفة خمر الجنة كذا قال لي الشيخ أبو جعفر بن الزبير؛ والمعنى: لا تتصدّع رؤوسهم من شربها فهي لذة بلا أذى بخلاف خمر الدنيا؛ وقيل: لا يتفرقون عنها ﴿ولا ينزفون﴾ أي: تذهب بعقولهم بوجه من الوجوه أي: يفرغ شرابهم من نزفت البئر إذا نزح ماؤها كله؛ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاي والباقون بفتحها ﴿وفاكهة مما يتخيرون﴾ أي: يختارون ما يشتهون من الفواكه لكثرتها؛ وقيل: المعنى: وفاكهة متخيرة مرضية والتخير الاختيار ﴿ولحم طير مما يشتهون﴾ أي: يتمنون؛ قال ابن عباس رضى الله عنهما: يخطر على قلبه لحم الطير فيصير ممثلاً بين يديه على ما اشتهى، ويقال: إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير فيذهب؛ فإن قيل: ما الحكمة في تخصيص الفاكهة بالتخيير، واللحم بالاشتهاء؟ أجيب: بأنّ اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم، وإذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة، فالجائع مشته، والشبعان غير مشته بل هو مختار، وأهل الجنة إنما يأكلون لا من جوع بل للتفكه فميلهم للفاكهة أكثر فيتخيرونها، ولهذا ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن بخلاف اللحم، وإذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه فتميل نفسه إليه أدنى ميل، ولهذا قدم الفاكهة على اللحم.


الصفحة التالية
Icon