فإن قيل: كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور وعلى أنّ الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ أجيب: بأنّ الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشة إلا تراهم يقولون: ﴿ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون﴾ وقد أيقنوا الخلود ولم يشكوا فيه وقالوا: ﴿ليقض علينا ربك﴾ (الزحرف، ٧٧) وقد علموا أنه لا يقضي عليهم.
﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ حين تتلو القرآن.
روي أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم يستمعون القرآن فقالوا للنضر: ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته ـ يعني الكعبة ـ ما أدري ما يقول إلا أنه يحرّك لسانه فيقول أساطير الأوّلين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الماضية وأخبارها فقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقاً فقال أبو جهل: كلا لا تقرّ بشيء من هذا فأنزل الله تعالى ﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ ﴿وجعلنا على قلوبهم أكنة﴾ أي: أغطية ﴿أن﴾ أي: كراهة أن ﴿يفقهوه﴾ أي: يفهموا القرآن ﴿و﴾ جعلنا ﴿في آذانهم وقراً﴾ أي: صمماً فلا يسمعونه سماع قبول ووجه إسناد الفعل إلى ذاته تعالى وهو قوله تعالى: ﴿وجعلنا﴾ للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم: ﴿وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب﴾ (فصلت، ٥) ﴿وإن يروا كل آية﴾ أي: معجزة من المعجزات الدالة على صدقك ﴿لا يؤمنوا بها﴾ لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم ﴿حتى إذا جاؤوك يجادلونك﴾ أي: بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم جاؤوك يجادلونك ويناكرونك وحتى هي التي تقع بعدها الجمل لا عمل لها والجملة إذا وجوابها وهو ﴿يقول الذين كفروا إن﴾ أي: ما ﴿هذا إلا أساطير﴾ أي: أكاذيب ﴿الأوّلين﴾ أي: أحاديثهم من الأمم الماضية وأخبارهم وأقاصيصهم وما سطروا بمعنى كتبوا والأساطير جمع أسطورة بالضمّ قال البخاريّ عن ابن عباس: وهي الترّهات.