التمييز، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة : كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن، منتصحاً في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا، حدّث أبو هريرة قال :
( ٦٦٣ ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام : إنك خليلي، حسن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه : أُظله تحت عرشي، وأُسكنه حظيرة القدس، وأُدنيه من جَواري ) وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه، لأن المعبود لو كان حياً مميزاً، سميعاً بصيراً، مقتدراً على الثواب والعقاب، نافعاً ضاراً، إلا أنه بعض الخلق : لاستخفّ عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغيّ المبين والظلم العظيم وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة كالملائكة والنبيين قال الله تعالى :﴿ كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم، فلا تحق، إلا لمن له غاية الإنعام : وهو الخالق الرازق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، الذي منه أصول النعم وفروعها. فإذا وجهت إلى غيره وتعالى علواً كبيراً أن تكون هذه الصفة لغيره لم يكن إلا ظلماً وعتواً وغياً وكفراً وجحوداً، وخروجاً عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور ؟ فلا يسمع يا عابده ذكرك له وثناءك عليه، ولا يرى هيآت خضوعك وخشوعك له. فضلاً أن يغني عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها. ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم وشيئاً منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أُنجك من أن تضل وتتيه. ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه : بأن الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمان الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوّك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزي ونكال وعدو أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم هو الذي ورّطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها