سعديك، وحنانيك. فإن قلت : كيف وصف الواحد بالجمع ؟ قلت : إنما صحّ ذلك لأنّ الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير، ألا تراك تقول : القرآن أسباع وأخماس، وسور وآيات، وكذلك تقول : أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات، ونظيره قولك : الإنسان عظام وعروق وأعصاب، ألا أنك تركت الموصوف إلى الصفة ؛ وأصله : كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني. ويجوز أن يكون كقولك : برمة أعشار، وثوب أخلاق. ويجوز أن لا يكون مثاني صفة، ويكون منتصباً على التمييز من متشابهاً، كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل، والمعنى : متشابهة مثانية. فإن قلت : ما فائدة التثنية والتكرير ؟ قلت : النفوس أنفر شيء من حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عوداً عن بدء، لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله ﷺ أن يكرر عليهم ما كان يغط به وينصح ثلاث مرات وسبعاً ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم. اقشعر الجلد : إذا تقبّض تقبضاً شديداً، وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس، مضموماً إليها حرف رابع وهو الراء، ليكون رباعياً ودالاً على معنى زائد. يقال : اقشعر جلده من الخوف وقف شعره، وهو مثل في شدّة الخوف، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل، تصويراً لإفراط خشيتهم، وأن يريد التحقيق. والمعنى : أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده : أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، ثم إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة : لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة. فإن قلت : ما وجه تعديه ( لان ) بإلى ؟ قلت : ضمن معنى فعل متعدّ بإلى، كأنه قيل : سكنت. أو اطمأنت إلى ذلك الله لينة غير متقبضة، راجية غير خاشية. فإن قلت : لم اقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة ؟ قلت : لأنّ أصل أمره الرحمة والرأفة، ورحمته هي سابقة غضبه فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كل شيء من صفاته إلا كونه رؤوفاً رحيماً. فإن قلت : لم ذكرت الجلود وحدها أوّلاً، ثم قرنت بها القلوب ؟ ثانياً ؟ قلت : إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب، فقد ذكرت القلوب، فكأنه قيل : تقشعر جلودهم من آيات الوعيد، وتخشى قلوبهم في أوّل وهلة، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة : استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، وبالقشعريرة ليناً في جلودهم ﴿ ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى الكتاب، وهو ﴿ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ ﴾ يوفق به من يشاء يعني : عباده المتقين،

__________


الصفحة التالية
Icon