المعرب عما في الضمير، ﴿ الرَّحْمَانُ ﴾ مبتدأ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه ؟ ﴿ بِحُسْبَانٍ ﴾ بحساب معلوم وتقدير سويّ ﴿ * يجريان ﴾ في بروجهما ومنازلهما. وفي ذلك منافع للناس عظيمة : منها علم السنين والحساب ﴿ النُّجُومِ وَالنَّجْمِ ﴾ والنبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول ﴿ وَالشَّجَرُ ﴾ الذي له ساق. وسجودهما : انقيادههما لله فيما خلقا له، وأنهما لا يمتنعان، تشبيهاً بالساجد من المكلفين في انقياده. فإن قلت : كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمان ؟ قلت : استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي، لما علم أن الحسبان حسبانه، والسجود له لا لغيره، كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه، والنجم والشجر يسجدان له، فإن قلت : كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول، ثم جيء به بعد ؟ قلت : بكت بتلك الجمل الأول واردة على سنن التعديد، ليكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تقريع الذين أنكروا الرحمان وآلاءه، كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال الذي قدّمته، ثم ردّ الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف. فإن قلت : أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف ؟ قلت : إنّ الشمس والقمر سماويان، والنجم والشجر أرضيان، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل، وأنّ السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وأن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود النجم والشجر وقيل :﴿ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ﴾ جعله علامة وآية. وعن ابن عباس رضي الله عنه : الإنسان آدم. وعنه أيضاً : محمد رسول الله ﷺ. وعن مجاهد النجم : نجوم السماء ﴿ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا ﴾ خلقها مرفوعة مسموكة، حيث جعلها منشأ أحكامه، ومصدر قضاياه، ومتنزل أوامره ونواهيه، ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه ؛ ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه ﴿ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾ وفي قراءة عبد الله ( وخفض الميزان ). وأراد به كل ما توزن به الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس، أي خلقه موضوعاً مخفوضاً على الأرض : حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم ﴿ أَلاَّ تَطْغَوْاْ ﴾ لئلا تطغوا. أو هي أن المفسرة. وقرأ عبد الله ( لا تطغوا ) بغير أن، على إرادة القول ﴿ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ﴾ وقوّموا وزنكم بالعدل ﴿ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ ﴾ ولا تنقصوه : أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان. وكرّر لفظ الميزان : تشديداً للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله والحث

__________


الصفحة التالية
Icon